طلال سلمان

عبد ناصر 1956 ما بعد تحية

بديهي ان يستذكر الرئيس المصري حسني مبارك مصدر »الشرعية الدستورية« لحكمه، ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، فيتوجه بالتحية الى بطلها الراحل جمال عبد الناصر.
لكن اعلان البديهيات بات دليلا على شجاعة استثنائية في زمن بين شروط النجاح فيه تشويه التاريخ وتسفيه الانجاز وتحقير فكرة الثورة وادانة التطلع الى التحرر باعتباره »ارهابا« وانكار حق الانسان في العدالة لانه يتنافى مع الحريات الفردية ومن ضمنها حرية رأس المال وواجب حمايته من اي قيد او تضييق على ربحيته وقدراته الاستثمارية المفتوحة!.
ومع ان استذكار جمال عبد الناصر في خطاب الرئيس مبارك يجيء من قبيل الوفاء فان اختيار محطة العدوان الثلاثي في العام 1956 للتنويه بها بوصفها المعركة الاشد ضراوة التي خاضتها تلك الثورة اليتيمة الآن، يعيد للمناسبة بعض معناها السياسي وبعض جلال قدرتها الاستثنائية على التغيير واصطناع غد اكثر اشراقا لمصر خاصة وللعرب عموما ومعهم سائر الشعوب المقهورة.
ان تلك المواجهة المشرفة بين مصر الثورة الوليدة، آنذاك، وبين اعتى قوى الاستعمار، بريطانيا وفرنسا ومعهما اسرائيل، تقدم منذ رحيل جمال عبد الناصر، وكأنها هزيمة نكراء تسبب بها »تهور« ذلك الضابط المصري الشاب، فاستعدى بها الغرب (واسرائيل!!) على العرب مما جلب عليهم الويلات التي ما تزال مستمرة حتى الآن!
وكان لا بد ان يسود مثل ذلك المنطق الانهزامي لكي تبرر من بعد اتفاقات الاذعان التي عقدت مع اسرائيل، والاندفاع المهووس الى طلب الحماية الاميركية وتسليمها القرار »العربي«، وذبح الافكار الثورية والمؤمنين بها، واغتيال اية دعوة الى التغيير واتهام القائلين بالصمود في عقولهم ورمي رافضي الاستسلام بالجنون او بالتورط في الارهاب.
ان شعوبا عديدة في العالم تؤرخ لميلادها وتقدمها واستعادة دورها بالانتصار المصري (والعربي) في معركة السويس التي بلغت ذروتها بالعدوان الثلاثي في خريف 1956.
وأحد أروع تجليات التضامن العربي ايمانù بالمصير المشترك قد تحقق عبر تلك المعركة الخالدة التي شارك فيها كل مواطن عربي بقدر ما يستطيع، في سوريا والعراق والاردن ولبنان والخليج والجزائر وليبيا والسودان الخ…
كذلك فقد تكاملت صورة العداء الاسرائيلي لاي تقدم عربي، ولاي احتمال بالنهضة واستعادة الوعي، عبر تلك المؤامرة العلنية الخطيرة لوأد الانسان العربي من قبل ان يمسك قراره بيديه،
عبر مواجهة العدوان الثلاثي في العام 1956 ولد انسان عربي جديد، أقل عاطفية وغيبية وتسليمù بالقدر الاستعماري، وباشر محاسبته لانظمته المتهالكة امام الاجنبي والمستقوية عليه فقط. واذا كان قد ضاع منه الطريق او ضيع عنه في ما بعد فلا يعني ان ما كان بدأه كان خطأ ومجلبة للعنات.
وعبر مواجهة العدوان الثلاثي تم التنبه الى عملية النهب المنظم لخيرات البلاد وارزاق العباد، فكان ان استعيدت الحقوق من سارقيها الاجانب ومن سماسرتهم ووكلاء مصالحهم (داخل السلطة وفي مرافق الانتاج عامة) في الداخل،
ان استذكار تلك المعركة المجيدة يجب ان يتجاوز اعادة الاعتبار الى احدى اعظم الصفحات في التاريخ العربي الحديث، الى محاولة الافادة من دروسها العميقة والمكتوبة بالدم وابرزها ان التنازل ليس طريق التحرر، وان التفريط ليس طريق استعادة الحقوق، وان »الانفتاح« لا يأتي بالتقدم، وان الخضوع للعدو لا يوفر الديمقراطية في الداخل.
ليست الولايات المتحدة الاميركية جمعية خيرية توزع الحريات والرفاه والديمقراطية على الشعوب المستضعفة،
وليست اسرائيل بعثة تبشيرية جاءت لنشر الهداية والعلم والسلام في الارض التي تنكر عليها هويتها الان وتعطيها اسمù جغرافيù يسقط تاريخ أهلها فيها،
وليس الانسان العربي متسولا او ارهابيù،
ولا يسرِّع الغد خطواته اليك بقدر ما تخرج من تاريخك ومن جلدك ومن هويتك ومن حقك في ارضك،
مع التمني بان يكون للتحية التي وجهها الرئيس مبارك لثورة 23 يوليو ولبطل معركة 1956 ما بعدها..

Exit mobile version