طلال سلمان

عبد الكريم الشعار المستوطن بين آهين!

الأوله آه، والثانية آه، والثالثة آه.
الأوله آه من عبد الكريم الشعار الذي آمن بالفن رسالة ومستوى ورهافة حس فصمم وما تاه،
والثانية آه على عبد الكريم الشعار الذي خانه الحظ وجافاه المتعهدون فحرموه من أن يحلق في مداه.
والثالثة آه على الجمهور الذي صار يسمع “بوسطه” لا بقلبه، مفترضاً أن الرقص أقصر طريق للهرب من بلواه.
فبين الآه والآه يستوطن عبد الكريم الشعار،
وهو يطل من ذاك البرج العاجي على الجمهور الذي جرفته أمواج عصر الهبوط والسقوط والتردي بإشفاق، ثم يرتد إلى صومعته في ما بين المسجدين بطرابلس، تاركاً المسرح لمن يرغب أن يشغله بالآلات متعددة الطبول والأجساد متعددة الالتواءات.
لا مكان للطرب، للسمع، للنشوة المطلقة التي تحملك على جناح النغم إلى سدرة المنتهى،
لا مكان للهمسة الحنون، ولا لصهيل المهر يطلقه عفيا فتتناوبه الأودية لينال كل نصيبه من دفق الحياة المتماوج نغماً صادحاً كما آذان الفجر.
هل العيب في الزمان أم في عبد الكريم الشعار؟
هل أتى هذا الفتى “الأزهري” في غير زمانه، وهل هو قد بكر أم أنه تأخر عن موعده؟!.
على امتداد عشرين سنة طويلة ظل عبد الكريم الشعار في مباراة عناد قاسية مع الحظ،
وقالوا له: أنس أم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد عثمان وسيد درويش وزكريا أحمد والسنباطي ومحمد القصبجي، وتعال إلى النجاح الفوري،
قالوا له: لقد مات أولئك العباقرة ومات جمهورهم معهم، أو أنه شاخ فما عاد يسمح، وإذ سمع ما وعى، و”نبت” جمهور جديد مختلف لا يطيق “التجويد” متسرع وعجول يريد أغنية الدقيقة الواحدة والنغمة الواحدة بشرط أن تكون مدخلاً إلى الرقص.
قالوا له: عن ما شئت من هذه الأغنيات البلا صاحب، والتي يمكن أن يؤديها أي صوت لأنها لا تحتاج دراسة أو مجهوداً، ولكنها تدغدغ الجسد كله فيهتز بالنشوة اهتزازاً.
لكن عبد الكريم الشعار، الأصيل حتى الثمالة، المشبع بالتراث الشرقي – العربي البيزنطي – الإسلامي، رفض المساومة، وضحى بالشهرة السريعة، وبالأنوار وعدسات التلفزيون والسينما ليحمي نفسه ويحمي فيها هذه “الأمانة” التي يرى نفسه مسؤولاً عنها.
وفي دنيا الفن، لا يعترفون بالرسل والرسالات، لذا فقد أحجمت معظم الصالات، أو المطاعم التي تحولت إلى صالات، وكذلك بعض الفنادق الكبرى، عن التعاقد مع عبد الكريم الشعار، كما امتنع هو عن طرق بابها.
إنه يريد جمهوراً يغني له فيطربه،
إنه لا يتوسل إرضاء الذوق الرائج سبيلاً إلى الشهرة،
من هنا فهو في معركة مفتوحة مع الحظ،
وعبد الكريم الشعار، يا ليل، من الذين باتوا حيارى سكارى، وما هم بالسكارى، يرى إن ما غنته “الست” من كلمات بيرم التونسي وأحمد رامي هو بعض أجمل مام قيل في الحب، وأجمل ما لحنته أنامل العاشق العظيم زكريا أحمد والعاشق الآخر رياض السنباطي والمقتول بعشقه الصامت محمد القصبجي.
ويرى أن الأصل في ما لحنه أرغول الحب محمد عثمان، وبعض ما أبدعه ذلك الذي اختصر الحياة في جرعة واحدة، سيد درويش،
لكن لأصحاب الصالات ، وجمهورها، رأياَ آخر، لذا بقي عبد الكريم الشعار نجماً مخبوء لا يشع في الصحافة والإذاعة والأعلام عموماً كما يشع “جراميز الغناء على الطلب”.
وأزمة عبد الكريم الشعار هي أزمة كل أصيل في زمان النظام العالمي الجديد، زمان التغرب والتهجين والإنتاج الرخيص والسريع: إنها أزمة الشعر والقصة والرواية والمسرحية، أزمة الإبداع في مختلف المجالات.
ليس للمبدعين من راع، بينما يتزاحم “الرعاة” على الرائجين،
وعبد الكريم الشعار سينتظر مثل أي مبدع آخر أن ينسحب زمن الضحالة والرواج وأن يستعيد الجمهور وعيه بالجمال والطرب الأصيل، لكي ينانل ما يستحق،
وهو، على أي حال، لا يتعجل النجاح… فكنزه في صدره وقلبه وإحساسه، وسيبقى.

Exit mobile version