طلال سلمان

عبد العزيز التويجري من »مجمعة« الصحراء إلى قلب الغد..

حين دخل علينا في غرفة مكتبه كان واضح الصلة بالتاريخ: كأنه آت منه، او كأنه ذاهب اليه، او كأنه حارس لسياقه، من موقع الشاهد صاحب الموقف، ثم من موقع صاحب الرؤية التي تحمل في ثناياها مرارة التجربة وعمق الاستنساخ.
إنه هو: الشيخ الحكيم، له جلال هدوئه، ورصانة أحكامه والقدرة على تجاوز الحاضر ليس بالعودة الى نهر الذكريات، وما أعرضه وأغزر ماءه، بل بالتقدم نحو المستقبل.
»أنا بدوي بسيط، لم تتح لي فرصة الانتساب الى مدرسة، فتعلمت على نفسي، وشدني الكتاب فما استطعت ان أتركه، وكنت كلما قرأت اكثر اكتشف مدى جهلي، فاندفع الى مزيد من القراءة والتعلم. لم اقرأ على أستاذ، اللهم الا الاستاذ الاكبر: الحياة ودروسها العظيمة التي لا تنتهي، ثم انها دائمة التجدد، تأخذ بيدك فتضعك في مواجهة الاسئلة الكبرى، وتكشف لك ان ما عرفته عنها ضئيل وما عليك بعد ان تتعلمه بلا حدود..«.
يصمت الرجل الذي يجلله الوقار، وتقربك منه بساطته، ويربطك به شعور من الود سرعان ما يتعمق مع اكتشافك اتساع دائرة معارفه وتنوع صداقاته، وشجاعته في المحاولة والإصرار على محاولة فتح مغاليق أسرار الكون، وتجاوز المحظورات في مجتمع عاش طويلا ولعله ما زال يعيش أسير المحظورات والذين نصبوا انفسهم كمصدر وحيد للإجابات جميعا على الاسئلة جميعا، بما فيها تلك التي ما تزال، وستبقى، تشغل بال الخلق دهورا.
أدلي بشهادتي حول الكتاب النفيس الذي أنجزه حديثا الشيخ عبد العزيز التويجري، وأصدرته دار الريس: »لسراة الليل هتف الصباح«، الذي يقدم بالوثائق سيرة جديدة لعبد العزيز آل سعود والدولة التي أسسها: المملكة العربية السعودية.
يقول الشيخ الحكيم بلهجة امتنان: لقد كنت أبحث عن صاحب رأي من الضفة الاخرى، اي ممن عرفوا بموقف نقدي، وربما أعنف، من هذه الدولة ومؤسسها، ولقد فكرت فعلا بالاستاذ محمد حسنين هيكل، ولكنني خشيت ان أحرجه، اذ لا تربطني به صداقة شخصية، وخفت ان يمنعه التعارض في الآراء من كتابة التقديم، كما خشيت ان يفسر الأمر على غير ما أقصد.. وهكذا تولى صديق مشترك عرض الأمر على هيكل، فقال: وكيف أكتب عن كتاب لم اقرأه؟!
وأرسلت اليه مسودة الكتاب فقرأها، ثم أبلغني موافقته على كتابة التقديم الذي وصّفني فيه خير توصيف، فأنا لست محايدا، ولست دارسا او باحثا ينظر الى الحدث الذي غيّر وجه هذه المنطقة، من الخارج.. نعم انا عاشق لهذا الرجل الذي ربيت في كنفه، وكنت في عداد مسيرته الطويلة والشاقة والتي كثيرا ما لامست حدود المستحيل.
»لست مؤرخا، ولم أدّع أبدا انني اؤرخ لمسيرة عبد العزيز. جل ما حاولت ان أظهر بعض المحطات البارزة، بدلالاتها العميقة، وان أرصد التحولات الخطيرة التي طرأت على المسيرة حتى وصلت بها الى نتائجها الباهرة، مع وقفات عند خطوط التصادم بين رؤيته المستقبلية ورؤية بعض عصب مسيرته التي كانت تريد ان تسكن في الماضي لا تغادره ولا تتركه يغادر هذه الأرض التي كانت قد ارتدت الى ما دون الجاهلية«.
الوجه بسيط الملامح، يغمره ذلك الهدوء المريح لمن يحس انه قد انجز عملا.
الشاربان واللحية اللطيفة نثار وقار أبيض فوق وجه يحمل الصحراء في لون بشرته وتحت رأس يضج بالأسئلة الحارقة التي تمتد من الفرد الحائر في نفسه الى الإله الذي يتجسد في كل المبتكرات والمكتشفات التي انجزها من خلقه بنفخة من روحه، ومن هنا فهو يعتبر تلك المركبة التي أنزلت على سطح المريخ وصراعها مع الصخرة الصغيرة، ومباشرتها إرسال الصور وكشف المخبوء وفك الطلاسم عن بعض أسرار الكون، »بعضا من قدرة خالق الأكوان« او قبساً من نوره يضيء به طريق الإنسان ويحفزه الى الاستمرار في البحث والتعلم والكشف والابتكار والتجدد.
» في المجمعة، قريتي المنتثرة المنازل في قلب الصحراء، نشأت وترعرعت مثل كل اولئك الفتية الذين لم يجدوا أستاذا يعلمهم او مدرسة يذهبون اليها. وكان الجراد هو »اللحم« الوحيد الذي يتسنى لنا ان نأكله.. وكان علينا ان نطارده طويلا في أعماق الأودية التي بها شجر والتي يلجأ اليها هرباً من البرد، فيتلطى فوق أغصانها او بين حجارتها المسننة وكثيرا ما كنا نعود وقد تجرحت أيادينا وأذرعتنا وأرجلنا بالطبع.
»وجاء يوم…
»فجأة برز لنا ذلك الكهل الوقور الذي كان الأهالي يرمونه بالزندقة. كنت مع واحد من أترابي… ولعلنا خفنا منه بداية، ولعلنا قد أردنا الهرب منه. لكنه نادانا فجلس إلينا، وسألنا ان كنا نحب ان نتعلم مؤكدا انه على استعداد لأن يعلمنا. عدنا الى القرية والوجل يربك خطانا. قال رفيقي انه لن يرجع اليه. وفي الصباح وجدت نفسي أمشي اليه مشوقا. فرح بعودتي وسألني عن رفيقي، ثم قال: حسنا، سأعلمك وحدك.
»هكذا تعرفت الى ثلاثة من الأفذاذ في آن، الاستاذ ومعه المتنبي وأبو العلاء المعري.
»سألت الرجل مباشرة: هل أنت مثلما يقولون عنك.. زنديق؟
قال: بل أنا مؤمن أكثر منهم جميعا. لكن الإيمان يحفز على السؤال ولا يلغيه. ان هذا الكون أوسع من أن نلخصه او نقزمه بالقول انه أراد ان يكون فكان، والله عز وجل قد فتح للانسان باب المعرفة وحرّضه على الاستزادة منها بلا توقف. من لا يسأل يعيش ويذهب من الدنيا وكأنه شيء. علينا ان نسأل دائما. السؤال طريق المعرفة، طريق اليقين، طريق الايمان..«.
يعود عبد العزيز التويجري الى كتابه الأخير والذي سيثير بالقطع ضجة في بعض الأوساط التي تجعل من ذاتها قيمة على الدين والتي تعتبر التفكير والبحث والاجتهاد خروجا على الإيمان.. يقول:
» حين ذكرت الصدام الذي وقع بين عبد العزيز والإخوان لم يكن همي توصيف المعارك العسكرية ونكء جراح قد اندملت، او التشهير بأحد، وإنما كنت أبرز الصراع بين فكرين: أحدهما منفتح على نور الشمس يطلب المعرفة، والثاني يخشى من المعرفة على الايمان، فوصل به الأمر الى حد تحريم اللاسلكي والراديو.. لكن عبد العزيز كان يقول: المهم الغاية التي تسخر لها الوسيلة، فالراديو قد يبث الأذان وتلاوة القرآن ويسهم في إيصال الرسالة الى من لم تبلغه، وقد يسخّر للعكس، فلماذا أتركه لخصومنا وأعداء ديننا ولا نسخّره نحن لخدمة ديننا الحق وتنوير المؤمنين.
هذا مجرد مثل،
لا ينتظر عبد العزيز شهادتي لكي يقر الناس بعظمته،
ولكنني أنا الذي عشت في المجمعة طفولتي وفتوتي، ثم شهدت ما شهدته من أحداث جسام، وتحولات خطيرة، حتى وحد عبد العزيز تلك الأشتات من القبائل والعشائر المتنافرة والمتصارعة، والمنقسمة على ذاتها والمقتتلة فيما بينها، والغارقة في جهل مريع، وأقام منها هذه الدولة التي لا ينكر احد مكانتها في العالم..
لقد أدليت بشهادتي، ليس فقط من أجل إنصاف الماضي، بل، أساسا، لكي آخذ منه قبسا يضيء طريق المستقبل. انها ليست محاولة لتحنيط ما كان، ولكنها محاولة للتحريض على السعي الى مزيد من نور المعرفة والى أسباب التقدم، حتى لا يرمينا التاريخ خارجه. وأرجو ان أكون قد وفقت«.
لا ادعاءات، بل أن الكلام يتسم دائما بالطابع الاعتذاري: أنا الجاهل، انا الذي لم تتيسر لي فرصة العلم، انا الذي أنتجتني هذه التجربة الفريدة التي عايشتها فكونتني، أنا القلق دائما، الحائر، الذي ما زلت أعزز إيماني بالتساؤلات وبالبحث المضني عن الإجابات. اللهم أشهد انني قد حاولت«.

 

قيس وليلى بالانترنيت..

قال لي وهو يندفع الى داخل المكتب كالقنبلة:
لا يمكن ان تصدق ان جميل بثينة او جميل عزة او قيس ليلى قد قالوا تلك القصائد في حبيبات لم يروا لهن وجها، ولم يعرفوا لون عيونهن، ولم يلمسوا منهن يدا، ولم يطوقوا بأذرعتهم خصورهن، ولم يذوقوا من شفاههن قبلة ولو متسرعة ومختطفة برشاقة لص بيتي ظريف.
كيف يمكن لإنسان ان يصف ما لم يره؟!
كيف يقول نثرا، وليس شعرا، فمن لم يلمح منه الا العباءة السوداء التي تحيل المرأة الى شبح، وتجعلها عورة يجب حجبها عن الناس، او عاهرة محتملة مستعدة لأن تسلم نفسها الى أول رجل يمر بها؟!
ان ديوان الغزل في الشعر العربي قد يكون الأرق في العالم، فمن أين أتى؟ هل نظمه عميان أم اولئك الذين عاشوا في صحراء قاحلة ليس بها نساء، فان وجدن فهن مجرد »أشياء« لا تحس ولا تدرك ولا تفقه معنى الحب ولا تعرف كيف تكون الحياة؟!
حاولت ان أهدئ من روعه، ولكن عبثا، اذ تابع إطلاق قذائفه الصاروخية:
لقد عرفت معظم أرجاء هذا الوطن العربي العظيم، فأدركت بعض أسباب تخلفنا. اننا لا نحيا حياتنا. إننا نهدرها. اننا لا نعترف بأنفسنا، اننا ننكر نساءنا. تلدنا النساء، ونتزوج النساء، وتولد لنا بنات سيصبحن من بعد نساء، ومع ذلك فنحن لا نعترف بالنساء الا كأداة جنس وولادة عار. انها سبب الفتنة. سبب اقتتال الأخوين، ومصدر التمزق الذاتي، والشاغل الذي يصرفنا عن القضايا العامة الى الهمّ الخاص.
في اليمن لم ألمح من النساء، القلة من النساء اللواتي صادفت، الا العيون، وفي الخليج والسعودية قد تطمس حتى العيون، وفي ليبيا قد تلمح من المرأة عينا واحدة، وفي السودان.. أف!! ان نصف المجتمع المشغول بجوعه يحمل النصف الآخر المشلول او المحكوم بالشلل!
لقد سمعت الرجال يتحدثون عن النساء وكأنهن اكتشاف جديد بالكاد أنزل الى السوق، وسمعت من بعضهم انهم عاشوا عمرا مع زوجات اختارها لهم الأهل من دون معرفة، ولم يزدادوا معرفة بهن بعد الزواج، وهذا من بين أسباب تعدد الزوجات، فقد يكتشف الرجل متأخرا ان من اختيرت له لا تصلح او لا ترضيه، فيبحث عن اخرى يفترض انها ترضيه ولو في علب الليل،
يا لهول ما سمعت.. فالنساء يجلسن في صندوق الشاحنة الصغيرة مع البهايم، إذ من العار ان يُجلس الرجل زوجته الى جانبه، فيراه الناس ويفضحونه!
وفي بعض الأقطار او القفار يعتذر الرجل اذا ما اضطر الى ذكر زوجته، فيكاد يقول »حاشاك« او »تُجل عن قدرها«. ينسى انها إله، او انها رفيقة عمره، وغالبا ما تكون حامية نجاحه، وفي كل الحالات حافظة بيته وحاضنة نسله، او انها ابنته التي ستتحمله في آخرته..
كيف يهون الانسان على نفسه الى هذا الحد؟!
كيف لا يخجل بجهله هذا الذي يتباهى بإهانة زوجته، التي هي أم أيضاً، علناً؟!
كيف سيفتح هذا المتحصن في تخلفه طريق الغد لأبنائه؟!
كيف سيعمل هذا المشغول بهمومه الشخصية الثقيلة، بانفصامه، بتمزقه بين عواطف الحب والكراهية المباهاة والشعور بالعار، بين التعفف الكاذب والسعي الى الدنس الرخيص؟! كيف سينتج؟! كيف سيصفو ذهنه وفي عينيه دائما صورة شاحبة لساق امرأة؟!
بحثت عن الكلمات فلم أجدها..
أطرق صاحبي فترة، ثم رفع رأسه والدموع في عينيه وهو يقول:
مؤكد اننا سنهزم إسرائيل! مؤكد اننا سننتصر على الغرب وتقدمه! مؤكد اننا سننتج ما هو أكثر تطورا من الكومبيوتر،
ثم ضحك، فجأة، كمن خطرت له فكرة طريفة، فقال:
ترى هل كان قيس بن الملوح يبعث الى ليلى بقصائده عبر الانترنيت، فأحبته نصا، وأحبها وهما او قارئا مفترضا يقبع خلف زر يكفي ان تلمسه ليختفي الشعر والشاعر والموضوع وقصة الحب الأرقّ والأبهى والذي طالما تمنى كل شاب لو كان بطلها؟!
تهاوى الكلام، وكل منا غارق في تأمل عمق الهوة التي نقف على حافتها خائفين.

 

تهويمات

} كان أمسي بلا ليل.
لم تأتني، فامتد يومك الأول وقصُر ليلي الثاني، وأنهك التوقع الليل الثالث فغاب قمره ولم تشرق شمسه، وكنت تعبثين بها جميعا.
} طاردتني عيناك كنجمتين في أفق معتم.
اجتهدت كثيرا في ان أبني للعيون جسدا فلم أنجح.
كنت دائما أتخيله أجمل مما خططت على الورق، حتى اذا وقعت عليّ عيناك عجز خيالي عن اللحاق بالحقيقة فكسرت أقلامي واكتفيت برصد النجوم.
} طاردني صوتك مجتازا المحيط.
أنت قبل المسافة. انت بعد المسافة تبقين بعدي، وتبقين قبلي، وتبقين في، وأنا المسافر في مسافاتك الأطول من المدى المفتوح بين عينيك.
} في المعبد رأيتك تتصدرين القبة المزركشة،
وسمعت إسمك عبر صلوات الآخرين. كان الكل يهمهم به وينظر إليّ. هل اكتشفوا مني أن إسمك الصلاة.

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
كلما سمعت غزلا رقيقا انتشيت واستعرته لحبيبي. وأبرر فعلتي لنفسي بأنني لو عرفت لقلت اجمل، وبأن الحب يعطيني الحق في ان أغرف من هذا النبع المتدفق بمشاعري على لسان غيري. الحب مشاع للمحبين. لا تخوم بينهم ولا حدود. قد يتبدل عنوان القصيدة، باختلاف الاسماء، وليس ضروريا ان يكون أرقّهم في النظم أعظمهم هوى… وكثير من الشعر يكتسب جماله من موضوعه أو من رؤيته وليس من قائله الذي قد يستعير او قد ينطق بمشاعر غيره.

Exit mobile version