طلال سلمان

عاصمة الكلام جاحظة العينين..

كلما بهتت صورة بيروت في عيون أهلها جاءها من عشاقها، عرباً وأجانب، مدد فزكاها كاشحاً عن وجهها ما علق به من وخم المحليات كالركود الاقتصادي والضائقة المعيشية والفوضى الإعلامية والفضائح المالية هدراً وإفساداً وصفقات مشبوهة تحمل ألقاباً مفخّمة أو مدوّلة أو معلاّة ومعتلة ومعلولة ومعلومة.
لم تفقد بيروت سحرها، بعد… ولم تستطع عاصمة عربية أخرى أن تلغيها أو تبزها أو تتفوق عليها فتحتل مكانتها الممتازة في قلوب المولهين بحبها.
لكل عاصمة عربية طيبها وعبق تاريخها وميزاتها، وكذلك نقائصها وعيوبها،
لا يتصل الأمر بجمال الموقع أو المساحة أو طراز البناء أو جمال الهندسة.
إنها قضية روح،
لكل مدينة روح ووهج ونكهة.
العواصم كالنساء: قد تبهرك إحداهن بجمالها ثم تصعقك برودتها، وقد يأخذك سحر العينين عند أخرى لتكتشف من بعد أنها لا ترى بهما أبعد من أنفها، وقد تعجب بعقل إحداهن ثم تفجعك بأنها على عداء مع الذوق، وقد تستمتع بصحبة ثالثة لكنها تبيعك فوراً إذا ما صادفت من هو أعلى منك كعباً في الوجاهة أو أعظم منك دخلاً… وبالدولار.
بعض المدن تصدمك بجفافها الظاهر حتى في شوارعها ومبانيها ومسلك أهاليها،
وبعض المدن يشدك فيها »أمر ما« لا يتضح لك في البداية ولكنك سرعان ما تكتشفه وأنت تتوغل فيها فإذا هي تتوغل فيك وتسكنك.
بيروت لا تتميز بشيء في ظاهرها: مداها محاصر ومحصور بين بحر غير نظيف وجبل ينهش غول الإسمنت خضرته باستمرار، لا حدائق فيها ولا مساحات خضراء بل ولا شجر، بل أن الحس التجاري عند أصحاب عقاراتها ينعكس عداءً جدياً تجاه النبات عموماً سواء أكان ورداً أم شجراً أم أصص زهر وعطر وحبق على الشرفات.
وبيروت »غابة الحجارة« كما سمّاها زميلنا رفيق خوري في ديوان شعره الأول، فهي كتلة اسمنتية قبيحة، لا طابع لها ولا ذوق في هندستها المعمارية ولا مخطط ينظم إحياءها ويعطي فسحة للضوء والهواء والعلاقات الإنسانية الناعمة.
إنها كمدينة، أي بالموقع والهندسة وفوضى الأبنية المخالفة للقانون والازدحام المنهك، والتلوث جلاّب الأمراض، نقيض ما هي عليه في روحها وما تعنيه للوافدين إليها والعابرين أو الزائرين الذين لا يستقرون فيها إلا لفسحة بين اعتقالين في عواصمهم التي تكاد سياسياً تشابه السجون، والتي لا يعوّض جمال موقعها أو جلال العراقة في مبانيها، أو وهج الذهب في قصورها المستنبتة في قلب الرمل، عن ذبول روحها وعن انطفاء صوتها في غيهب الخوف من الكلمة التي تستفز سيف السلطان فيقطع لسان مَن كان ينوي قولها إرباً من قبل أن يقولها.
تسمع يومياً مَن يقول لك: لقد جرّبتُ لندن أو باريس، القاهرة أو الكويت، وأقمت فترة في واشنطن أو لوس انجلوس، ولكن بيروت أجمل وأبهى..
أعظم المديح تسمعه من العرب الآتين إليها من مختلف ديارهم لكي… يتنفسوا:
إنما آتي لكي أقرأ صحفاً غير متشابهة حتى لتكاد تكون واحدة، ولأسمع عبر إذاعاتكم لا سيما المرئية انتقاداً للسلطات وفضحاً لأصحاب النفوذ ورداً على الحكّام يسفّه أقوالهم ويكشف أكاذيبهم، حتى لو كان ذلك في نظركم بعض من الفولكلور اللبناني، وتنفيساً لاحتقان محتمل، لا هو يغيّر شيئاً ولا هو يمهّد لمستقبل أفضل، وترونه »كلاماً بكلام«، أنتم تنسون أن حق الكلام نعمة عظمى، أن تتكلم يعني أنك موجود. نحن غير موجودين لأننا لا نتكلم. مَن تكلم اختفى ومَن صمت سلم واغتنى وابتنى قصوراً.
أمس، تسنى لي أن أحضر في بيروت أربع تظاهرات ثقافية وإعلامية يدور فيها الكلام حراً عفياً، وبغض النظر عن الدقة في الاستنتاج. لقد تجولت في معرض الكتاب فوجدت العديد من الكتب التي أبحث عنها منذ زمن طويل ولا أستطيع الوصول إليها لأنها »محظورة«، تارة بذريعة أنها تخالف مبادئ الدين الحنيف الذي بين آيات قرآنه الكريم آية افتتحها بالكلمة المباركة »إقرأ«، وطوراً بحجة أنها تحرّض على العصيان أو تهدد المجتمع لأنها تنتقد سلم القيم أو المفاهيم البالية السائدة فيه والتي لا نخضع لها في حياتنا إلا نفاقاً أو خوفاً من الآخرين، ونخرقها سراً كلما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
.. وعلى هامش المعرض، تسنى لي أن أستمع إلى محاضرة قيمة لأحد أكبر أساتذة الجامعات في بلادنا الدكتور وليد الخالدي، وقد سمعت منه وهو الذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية ويدرس في بعض أشهر جامعاتها فضحاً للسياسة الأميركية لا أسمعه من كثير من فرسان الجمل الثورية وأعداء الأمبريالية.
كذلك شهدت توزيع جوائز محترمة من مؤسسة عبد الهادي الدبس للأعمال الخيرية على خمسة من الذين وضعوا علمهم أو فكرهم أو فنهم في خدمة الإنسان، بعقله وصحته وذوقه ومشاعره،
رأيت حشداً من أهالي ترشيش، الفلاحين الفقراء المنسيين، في زاوية الصالة الفخمة في ذلك الفندق المخمّس النجوم، وهم يصفقون لابنهم رضوان السيد، الذي أوفدوه ليكون شيخاً فخلع الجبة واستمر يسعى إلى العلم حتى بلغ مرتبة عليا فصار مرجعاً يلقبونه »بمولانا« تحبباً، ويأخذون عنه في أمور الدين أكثر مما يأخذون في أمور الدنيا،
وفرحت بتكريم قاض متميّز بعلمه هو الدكتور مصطفى حسين العوجه، وأحسست أن شيئاً من الاعتبار قد أعيد إلى طرابلس كمدينة علم وعلماء..
ولقد بلغت سعادتي ذروتها مع تكريم طبيبين ممتازين، أحدهما متخصص في طب العيون (الدكتور أحمد منصور) والثاني في طب الأطفال وطب الأعصاب وفيزيولوجيا الدماغ وعلم الأدوية (الدكتور محمد ميقاتي)،
ومن نافلة القول إنني فرحت بالتكريم المتجدد للفنان محمد شامل.
أهم ما لفتني أن التكريم يتم بالتواضع اللائق بالعلم والعلماء وليس بطبل وزمر وذلك التباهي الممجوج الذي نشهده في بعض المهرجانات التي تقام لتكريم السلطان وليس بعض رعاياه من المبدعين.
… ولقد سعيت لألحق بعد ذلك الحوار المفتوح الذي نظمته نضال الأشقر في »مسرح المدينة«، وشارك فيه عدد كبير من الاعلاميين، وكان موضوعه الحرية وضوابط القانون والأخلاق، لا سيما في ما خص البرامج التلفزيونية،
وفي المساء شهدت »تظاهرات« سياسية صاخبة على الشاشات التلفزيونية جميعاً، وتبدى لي وكأن الحديث يعنينا جميعاً في مختلف عواصمنا العربية المحكومة بالخرس.
لعلكم لا تقدّرون النعمة التي تغمركم،
لعلكم تستهينون بقيمة أن تقولوا ما ترغبون في قوله، حتى لو لم تسقط الحكومة أو النظام.
قد تناقشون جدوى القول، طالما أن القرار لن يتبدل ولن يغيّره الكلام،
ولكن… ماذا عن الذين يخضعون لأنظمة لا تتبدل ثم بعد ذلك تختارون ما يتلونه من القرآن الكريم في مساجدهم حتى لا يؤخذون بسوء القصد من اختيارهم الآيات المحرضة على التغيير وعلى أن يمارس الإنسان إرادته فيكون؟
أليست هذه مفاضلة في البؤس بين ثرثرة عاجزة وبين خرس عاجز؟!
لا، فالكلام لا يذهب هباء. لعله لا يؤثر في بيروت بقدر ما ترغبون، ولكنه يؤثر خارجها، ثم يرجع فيؤثر فيها مرة أخرى، وهذا يزيد من حبنا لبيروت ومن حرصنا عليها. فاحموا لنا بيروت.
بيروت… إنها أكثر من مدينة. إنها ليست تجمعاً متورماً للسكان والأبنية الغالية الثمن والتي لا تجد زبائن لشققها المسعرة واحدتها بنصف مليون دولار فما فوق. إنها منتدى فكري ومعرض دائم للأفكار والثقافات، ودار جدل، إنها مدينة قلقة، لا تنام، ومتمردة لا تستكين. لا المدافع أسكتتها ولا الطيران ولا الميليشيات. إنها مدينة تضج بالشبق وحب الحياة. إنها شاطئ الرغبات وولادة الأحلام. إنها جبل اللذة ووادي الحضارة والسوق المفتوح لكل أنواع البضائع والأغراض.. السياسية.
إنها مدينة جاحظة العينين، تتابع كل شيء، ترى وتعرف كل شيء فلا تنام بينما معظم المدن العربية تظنها غارقة في نومها كاهل الكهف فإن سهرت حاذرت أن يرى العسس مصباحها مضاء.
بيروت هي النور، فلا تطفئوها،
لا نريدها قائداً ولا هي تستطيع. نريدها منارة فحسب، فاحفظوها.
أف… ما أكثر ما تتكلمون أيها اللبنانيون ثم تشكون من أنكم لا تجدون وقتاً للكلام!
إن كل لبنان يتكلم، والمشكلة ربما أنكم لا تجدون من بينكم مستمعين!

 

جولة مع الخالدين في معرض البائعين

ذهبنا الى معر ض الكتاب، بحكم العادة
المكان فسيح بحيث ضاع فيه المؤلفون وان ابتهج الباعة والمسوّقون،
تمشينا بين المشاهير او طالبي الشهرة، تحف بنا الأسماء، مشعة ومنطفئة، فوق أغلفة مزركشة او وقورة لا يعكر صفو بياضها الا شارات سوداء مقتضبة في الأعلى والقلب وعند حافة الفراغ
ما أقل ما قرأناه، على امتداد العمر. تلك غصة تصاحب أي تجول في مكتبة، فكيف بمعرض كتاب لبناني عربي دولي مطعم بالكومبيوتتر والأنترنيت وسائر المبتكرات الحديثة التي تلغينا من حيث هي تؤكد وتحفظ ما تبقى منا.
اما أسهل التأليف ودخول التاريخ، اليوم، بينما قضى ارهاط من الكبار، مفكرين وبحاثة ودارسين وروائيين ناهيك بالشعراء، أعمارهم وهم يكتبون على جدران الذاكرة ويشطبون ثم يشطبون ليعيدوا الكتابة، وعبثا حاولوا ان يدخلوا »دار الخلود« فعز عليهم الحصول على شهادة ميلاد او على بطاقة اقامة وإجازة عمل!
اليوم، بمقالتين او سجعتين او خاطرتين ورَشة من النقاط، او بالبياض المطعم بقليل من الكلمات المعتلة المبنى والخارجة على قواعد اللغة او ما تواضع الناس على اعتبار من »الاخلاق العامة« يصبح الشخص كاتبا فيقفز من مهاوي النكرات الى معارج المشاهير،
المؤلفون اكثر من القراء، يتلاقون فيتبادلون النظر شزراً قبل ان يغلفوه بالنفاق: هم الآن اصحاب مصلحة مشتركة، والكل يريد الزبائن، وأي »حركة« قد تؤذي السوق، فلتؤجل الخلافات الفكرية الى ما بعد جني الحصيلة الثقافية بالدولار الأميركي.
خرج »الخالدون« من مجلداتهم الضخمة التي حبسوا فيها ولأزمان طويلة حتى غدت لهم قبورا
كان بعضهم مذهولا، والبعض الآخر هائجا يبحث عن العصابات التي تنبش القبور وتستخرج الأجداث للتتاجر بعصارة فكر الذين قتلت حقوقهم قبلهم، اما اكثريتهم فكانوا يبحلقون »بأحفادهم« المنسّبين اليهم او المنقضين عليهم بالتهشيم والتنكر والتبرؤ من أبوتهم وكأنهم مجلبة للعار.
كانت العداوة واضحة،
لو قرأ هؤلاء اولئك لما كتبوا،
لو قرأوا لكتبوا أقل وأفضل،
يتمشى المؤلفون الجدد وقد نفخوا صدورهم ورفعوا رؤوسهم زهواً بأن وأحدهم يبيع أكثر من طه حسين والمتنبي، وأكثر من توفيق الحكيم والمعري وأكثر من أبي الفرج الاصفهاني ونجيب محفوظ إلخ
يجلس واحدهم الى طاولة التوقيع محاطاً بزمرته، يوقع على النسخ من كتابه المرفقة بإيصالات ليطمئن الى ان الكلمات ولدت الدولارات.
الحشد يمر بين الرفوف والمنصات مكتفياً بالفرجة، مفسحا الطريق لبعض »الكبراء« الذين جاؤوا لتظهرهم صورهم كمشاركين في التظاهرة الثقافية،
الجيل الجديد يبحث بقلق عما يفيده، ويحار فلا يختار، ولا يجد مرشدا نزيها يساعده في الانتصار على قلقه والحيرة، فيذهب ناحية ما اعتاده من قراءات، خوفا من الضياع في »محيط المحيط« خصوصا وانه يقف على عتبة »لسان العرب«، وانه لا يستذكر أسماء الذين وضعوا قواعد اللغة والشعر الا ومعها »التشنيعات« التي تحقرهم.
يقترب فتى ملتهب الحماسة من المجلدات فيخاف من ضخامتها ومن غبار التاريخ الذي يغلف أغلفتها القاتمة،
يهرب الى الكتب الصغيرة التي ما ان تفتح غلافها حتى تقرأ السطر الأخير فيها، وبعدما يستنقذ نفسه من بحر النقاط يغرق في بياض الصمت الذي يحتل معظم كل صفحة منها،
القراءة في البياض هي المتعة،
نقاط للقراءة، ولكل نقطة معنى،
ما أسهل الشعر، ما أصعب الكلام،
ما أسهل التأليف، ما أصعب الكتابة،
ما أسهل الصمت، ما أصعب الصمت على الصمت!

 

تهويمات

} تتناثر أوراق العمر وتبقين عصية على الاندثار.
في كل وريقة، في كل نتفة من ورقة، في كل نقطة حبر بعض ملامحك وحروف اسمك الذي بات لغة كاملة، قاموساً يحيط بما لا يُحاط.
عجيبة علاقتك بعمري: تغيبين فأشيخ وحين تحضرين يغمرني زهر الربيع الأول.
} تخطئين عمداً، ثم يجيء الاعتذار استفزازاً أو اتهاماً بالتقصير،
ما كنت أحسب أن المرأة تغضب كل هذا الغضب إذا عرض الرجل عليها صداقته.
كأنما تريده أن يتحرّش بها، كأنثى، أولاً، ثم بعد ذلك يكون »الاتفاق« على طبيعة العلاقة ومرتبة الطرفين فيها.
كأنما الصداقة تجسيد لخلل ما: إما في أنوثتها أو في رجولته.
أو كأنما الصداقة لا تكون إلا نتيجة اليأس من علاقة مطلقة بين أنوثة مقموعة ورجولة مقموعة.
} تزاحم رجلان على امرأة فذهبت إلى ثالث تضاحكه وتسخر من »التيسين« اللذين يحسبانها »ماعزاً«… ومدّ الصديق الجديد يده الى رأسه يتحسس قرنيه.
} قالت: اخفض صوتك. لا أسمع إلا الهمس. لا تتجمع نفسي في أذني إلا حين تطرقها أنفاس مَن أحبه أن يتغلغل فيَّ.
} مع كل لفتة منها كان يستشعر أن بعض السنوات الثقيلة قد سقطت عن كتفيه. واستمرأ اللعبة فظل يتصاغر حتى ارتد طفلاً يلثغ بجوعه.

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
عندما أسمع كلمة »المستقبل« تتكامل في مخيلتي صورة حبيبي. حبيبي هو الجمال، والمستقبل جميل لأنه يعنيني وحبيبي. تتزايد قدراتي وتتأكد عزيمتي وأنا أتقدم نحو الصعب. لست وحدي. هو معي… ما أجمل أن نكون معاً. ما أجمل المستقبل الذي سيكوننا ونكونه بإرادتنا وبجهدنا وبحبنا الذي لا ينضب.

Exit mobile version