طلال سلمان

عائد الى اوطان مضيعة

لم يكن الأسير العائد من سجنه الإسرائيلي بطلاً، سمير القنطار، معزولاً عن العالم، وبالذات عن أخبار الوطن العربي بقلبه الفلسطيني، لا يعرف شيئاً عما وقع فيه وعليه من تبدلات وتغيرات جذرية على امتداد الدهر الذي أمضاه حبيس الزنزانات… مع ذلك، فإن الكل مشفق عليه من خطورة الصدمات التي ستتوالى عليه فتلتهم حماسته المؤججة وشوقه العظيم للعودة إلى ميدان الصراع مع »العدو« الذي لا عدو غيره، لأنه يتضمن أو يحتوي كل من يريد شراً بهذه الأمة.على سبيل المثال لا الحصر: فإن سمير القنطار يفترض، ومن حقه أن يفترض وقد عاش الصورة من قلب الداخل الإسرائيلي، أن لبنان قد انتصر في الحرب الإسرائيلية في تموز ,,2006. وهو قد قرأ وسمع وعرف من الوقائع والشهادات ما يؤكد له، وبالدليل القاطع، أن إسرائيل قد مُنيت بهزيمة لم تكن تتوقعها. لكن سمير القنطار سيجد في لبنان »زعماء« وكبراء وقادة وحتى »جماهير« لا تريد أن ترى في تلك الحرب نصراً لهذا الوطن الصغير، لشعبه جميعاً ومقاومته التي صمد أبطالها كما الجبال، ولجيشه على ضآلة قدراته.أبسط مثال، يتجاوز الأقوال والخطابات المضادة، هو هذا الجدل المضني، بمعنى ما، والعبثي بمعنى ما، والمهين لكرامة هذا الشعب وتضحياته الجليلة بكل المعاني، الذي يجري حول البيان الوزاري لحكومة شُرِّفت بلقب »حكومة الوحدة الوطنية« بينما وزراؤها يتجادلون ويتماحكون حول أحرف العلة وأحرف الجر حتى لا يتضمن البيان أي ذكر للمقاومة، وإلا »فرطت« »الوحدة الوطنية«، فضلاً عن النصر الذي تحقق للبنان كله.لقد استغرق تشكيل هذه الحكومة شهراً ونصف شهر من المجادلات والمساومات والمحاورات، التي جاءت في أعقاب مبادرات عربية وصلت إلى كمالها في »مؤتمر الدوحة« الذي افترض الناس أنه كان خاتمة دهر الآلام وبداية جدية لاستعادة التفاهم الوطني على البديهيات.وحين وُلدت هذه الحكومة ـ المعجزة اعتبر الناس أن كل أطرافها سيبادرون فوراً إلى العمل لمواجهة سيل الأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية التي يعاني منها هذا الشعب الصابر، والتي تفاقمت حتى دفعت معظم الكفاءات الشابة إلى الهجرة (ولو القريبة) في حين أغرقت الباقين في لجّة من اليأس.بعد البيان الوزاري الذي قد لا تنتهي صياغته العبقرية هذا الأسبوع، سيضيع مزيد من الوقت في جلسات الثقة… وبعدها تبدأ »الحروب الانتخابية« بين الوزراء، ثم بينهم وبين النواب، ثم بين هؤلاء وأولئك مجتمعين وبين الناخبين المحاصرين في طوائفهم ومذاهبهم لتوكيد التلاحم وتعميق الوحدة الوطنية!أما إذا تجاوز سمير القنطار الإطار المحلي وحاول أن يتصور إلى أين يمكن أن تُحمل رفات الشهداء الذين تمكنت قيادة المقاومة، بكفاءتها السياسية العالية، أن تستعيدها لتعيدها إلى الأهل في مختلف أوطانهم، فإن غيمة من الحزن ستخيم فوق رأس هذا الأسير العائد بطلاً، وقد تجعله يبكي إشفاقاً من حال الأمة!فالعديد من الحكومات العربية لن تقبل أن تستعيد رفات شهدائها، لأن ذلك قد يخلق موجة من الاضطرابات والمواجهات مع أجهزة القمع فيها، ربما انتهت إلى ما لا تحمد عقباه.وقبل أكثر من ثلاثين سنة كتب الشاعر الكبير محمود درويش قصيدة مميزة عن »الأسير المصري« الذي عاد من سيناء، بعدما ضيّعت قيادته النصر الذي كان في مدى الذراع، فكاد هذا العائد يُنكر بلاده التي تركته قيادتها في تيه الرمال في سيناء التي بوشر تحريرها ثم اغتيل التحرير قبل أن يكتمل فانقلب إلى هزيمة جسدها »الصلح« مع العدو بشروطه التي ألغت مصر (رحم الله جمال عبد الناصر، في ذكرى ثورته الموءودة).ويمكن لمعظم هؤلاء الشهداء، لو قُدّر لهم أن ينظروا إلى بلادهم وهم يعودون إليها بعد هذا الغياب الطويل، أن يطرحوا السؤال ذاته، هذا في حال قبلت حكوماتهم عودتهم ولو ملفوفين في أعلامهم كأكفان!لا أحد حيث كان، أو حيث يفترض أن يكون.لقد بدلت الأنظمة الأوطان، حتى كادت تفقدها هويتها.تشطّرت فلسطين حتى كادت تضيع نهائياً، وبأيدي القيادات التي ترى السلطة أهم من الوطن، والتي تكاد تكون أخطر على القضية والوطن من إسرائيل.ضاع العراق: تمّ تفتيت شعبه إلى طوائف ومذاهب وأعراق وعناصر بفضل الاحتلال الأميركي الذي جاءه بالديموقراطية على صهوة طائراته الحربية ودباباته ومدافعه وجيوش المرتزقة التي »تقبض على الراس«.وما خلف العراق بعيد، بعيد، نأى بنفسه عن الحروب والخلافات والجدل، وغرق في مليارات الدولارات التي لا يعرف كيف ينفقها.وما خلف مصر بعيد، بعيد، يكاد يضيّع هويته، بعدما أضاع موقعه ووزنه »العربي« ومن ثم الدولي..[ [ [أهلاً بك أيها الأسير البطل الذي سوف يصدمك الواقع كثيراً، ولكنك قد تنتصر عليه بقوة صمودك.لكن الصراحة تقضي أن نعترف لك: إن شعوبنا العظيمة متعبة، بل هي منهكة بالخيبات والانكسارات بحيث أن انتصاراً مجيداً على العدو الحقيقي كاد يشعل فيها حروباً أهلية وفتناً مدمرة.مع ذلك: أهلاً بك يا سمير. كنفحة أمل نحتاجها أكثر بكثير من احتياجنا إلى بيان وزاري لحكومة الشهور التسعة من الخلافات اليومية.

Exit mobile version