طلال سلمان

ظاهرة انسانية اسمها فلسطيني

لرأس السنة شميم فلسطيني: ففي مثل هذا اليوم من العام 1965 أطلق الفدائيون الأوائل الرصاصة الأولى على المحتل الاسرائيلي، منتقلين بالنضال السياسي الى مرحلة الكفاح المسلح من أجل العودة الى أرضهم المحتلة. وكان ذلك تطورا مثيرا في برنامج الحركة الوطنية الفلسطينية، من شأنه أن يحدث انقلابا في التفكير كما في أساليب العمل وفي طبيعة العلاقات الشائكة أصلا مع الأنظمة العربية.
بعد ثلاثين شهرا، فقط، سقط ما كان تبقى من فلسطين (الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة) تحت الاحتلال الاسرائيلي نتيجة للهزيمة العربية في 5 حزيران 1967… وبات واضحا أن اقتحام اسرائيل من الخارج بالسلاح مستحيل، وأن الثورة في الداخل أكثر استحالة، خصوصا أن هذا »الداخل« مقطع الأوصال بين السلطة الأردنية (الضفة) والإدارة المصرية (القطاع) والاحتلال نفسه (فلسطين 1948).
كانت الظروف الاستثنائية التي لم يتعرض لها أي شعب آخر، قد حولت الفلسطينيين الى مجموعة من »الشعوب« لا تجمع بينها غير هوية وطنية مضمرة، في حين أن »الرعايا« يحملون هويات تكاد تكون بعدد الدول المنضوية الى الأمم المتحدة…
وأما »الثورة« التي تاهت في شبكة العنكبوت التي نسجتها من حولها الأنظمة العربية، ثم »انتحرت« حين قررت أن تتماثل مع هذه الأنظمة تلبية لنزعة نفسية عارمة نحو »القرار الوطني المستقل« ونحو توكيد الهوية الذاتية، فقد انتهت الى »سلطة« تحمل عن الاحتلال بعض أعبائه، ولا يسمح لها بالحركة إلا في ما يخدم مصالحها ويضعها في مواجهة شعبها أو »شعوبها« وحاجاتهم المتعددة: من الطعام والشراب والعمل الى إشباع النزعة الكيانية بمظاهر »دولة« تنسجها الأوهام ويلغيها العجز قبل الرصاص.
… وها نحن اليوم في مواجهة ثورة حقيقية لا يعترف بها أحد، داخل الأرض الفلسطينية المحتلة… ثورة ينكرها بعض أهلها، ويتنصل منها معظم أهل »السلطة«، ويرفض الاعتراف بها ومن ثم تحمل مسؤوليتها »العرب« الذين حولتهم أنظمتهم الى قطعان من الكيانيين، لا يهتم واحدهم إلا بنفسه، ويعيش في قوقعة مخاوفه المتعددة المصادر: نظامه العرفي وشبح السيف الاسرائيلي الطويل وهدير الأساطيل الأميركية التي جعلت أرضه من المحيط الهادر الى الخليج الثائر تحت الاحتلال العسكري المباشر، مع تهديد مفتوح بتدمير الأوطان والشعوب… وسط صمت عالمي هو أقرب الى التواطؤ منه الى العجز.
* * *
اليوم لا وجود للكيان الفلسطيني إلا كهوية وطنية.
ولقد اختفت ملامح الشعب الفلسطيني، لم يعد الفلسطينيون، حتى في نظر أهلهم العرب، بشراً طبيعيين.
صاروا »ظاهرة إنسانية« استثنائية ونادرة المثال.
خلقوا وضعاً فريداً في بابه، متخطين المألوف في نطاق
العواطف والمشاعر الإنسانية.
صاروا، بفرادتهم، وطاقتهم الخرافية على التحمل والصمود، مصدر تعذيب وإيلام للآخرين، الذين باتوا يحولون أنظارهم عن شاشة التلفزيون عندما يجيء دور الخبر الفلسطيني (وهو الآن في المؤخرة بعد الحرب الأميركية على العراق والتمرد الكوري على الإرادة الأميركية والقتل البشع في اليمن وتسالي موت الحكومة ودفنها في لبنان).
لم يعد »العربي« العادي يتحمل المزيد من مواكب التشييع اليومية.
بات يجلله العار وصور الشهداء الجدد تحتل البؤبؤ من عينيه…
فاض به الوجع وهو يتأمل وجوه المنسوفة بيوتهم، والأمهات النادبات، والنائحات المزغردات فرحاً بالشهادة.
وصار يغمره عرق الخجل البارد وهو ينظر الى الأطفال يقفزون الى ظهور الدبابات، أو يرشقونها بالحجارة، وجنودها المسلحون حتى أسنانهم يحارون في كيف يبعدونهم عنهم ما داموا قد قهروا الخوف ووقفوا يواجهونهم في عيونهم؟!
بالمقابل لم يعد هذا الفلسطيني الثاكل ابنه او المدمر بيته او المقطعة أشجاره يهتف بحرقة وجعه: أين العرب؟!
صار أكيداً أنه وحده… العرب.
أما العرب فلهم موعد يومي مفتوح مع عذاب الضمير، ومع تعذيب الذات، هو الموعد مع فلسطين التي لا تموت.
تحية لهذا الشعب الذي يؤكد عروبته بدمه بينما يخرج منها وعليها شيوخ عدنان وقحطان!

Exit mobile version