طلال سلمان

طيف رفيق حريري ومشروعة

يستحق الرئيس رفيق الحريري أن يعطيه اللبنانيون من عواطفهم ومن تقديرهم مثل ما أعطوه في حياته، ثم مثل ما أعطوه بعد استشهاده وانطواء رهانه على إمكان التغيير الذي كان عنواناً لمشروعه عندما دخل الحكم مقتحماً، والذي لم ينطفئ تماماً بعد تغييبه بجريمة الاغتيال المروعة التي ما زالت تداعياتها الخطيرة تؤثر على استقرارهم وعلى صورة غدهم بما يهدد اطمئنانهم إلى سلامة مجتمعهم ومن ثم دولتهم.
ذلك أنهم لم يروا في الاغتيال جريمة نكراء ضد «رجل العرب الذهبي» بمكانته الدولية الاستثنائية فحسب، بل أفزعهم ما أحدثته من تصدعات لوحدة الشعب وضربت حلم الدولة الذي يدغدغ طموحهم منذ الاستقلال، والذي لم يقدر له أن يتبلور إلا مرة واحدة، ولفترة وجيزة، في بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، ثم أجهض أو اغتيل أو تحطم في حروب الطوائف التي من السهل أن تصير دولاً مقتتلة باللبنانيين متى توزعوا أدياناً ومذاهب، وابتدعت لهم إثنيات مختلفة.
ومخطئ من يرى رفيق الحريري في طائفة أو في وجهة سياسية بالذات،
ومخطئ أكثر من «يستحزبه» بعد استشهاده، ويحاول تصويره خصماً للآخرين، ممن لم يكن في حياته في موقع الخصومة معهم، بل لعله كان أقرب إلى موقع «الحليف» أو «الصديق»… خصوصاً أنه كان عبقرياً في استكشاف نقاط التلاقي، ولو قليلة، والعمل على تنميتها وتطويرها بحيث تنعدم الخصومة حتى لو اشتدت المنافسة.
فابن صيدا الذي ذهب إلى السعودية من حركة القوميين العرب وعاد منها إلى لبنان عبر البوابة السورية رئيساً للحكومة، ثم قطباً سياسياً كبيراً عبر جهوده كـ«بنّاء»، وعبر دوره في توفير فرصة التعليم العالي لعشرات الآلاف من شباب لبنان، وعبر إرادة الخير التي كانت تعمر بها نفسه، اختلف مع السياسيين المحترفين كثيراً، واتفق معهم أحياناً، لكن «مشروعه» كان أساس الاتفاق والاختلاف.
لم يتوسل رفيق الحريري الطائفية يوماً، بل لعله قد تصدى مقاتلاً للكثير ممن نصبوا أنفسهم زعماء لطوائفهم، تارة بإثارة المخاوف، وتارة بادعاء الدفاع عن كرامة الطائفة… ويستذكر بعض اللبنانيين كلمات سمعوها منه في الساعات الأخيرة قبل جريمة اغتياله، والتي تفيد أنه يعتز بأن بعض الذين لا وجود لهم إلا باستغلال المشاعر الطائفية والمذهبية لم (ولن) يدخلوا بيته طالما بقي حياً.
وعندما ترك رفيق الحريري حركة القوميين العرب فإنه ظل «عربياً» تسكن فلسطين وجدانه (وبيته)… وظل معادياً لإسرائيل ذلك النوع من العداء البديهي الذي لا يحتاج إلى تبرير إلا بأوصافها ككيان عنصري استيطاني وافد أقيم بذريعة «الصفاء اليهودي» على حساب شعب فلسطين، ولأهداف تتصل بمشروع تجديد الهيمنة الاستعمارية على الأرض العربية جميعاً.
ومؤكد أنه لو كان رفيق الحريري معنا أيام المذبحة الإسرائيلية في غزة لرأيناه يجول بين العواصم العربية ويجوب بين مراكز القرار في العالم، في «تظاهرة سياسية» تهدف إلى ما هو أكثر بكثير من وقف «المحرقة» المنظمة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، بنسائه وأطفاله والرجال والبيوت والمدارس والمساجد والمستشفيات…
ولربما رأيناه يتصدر تظاهرة بل تظاهرات، أو يسعى إلى تنظيمها إن أعجزه المنصب الرسمي، للتعبير عن الحد الأدنى من التضامن الشعبي مع أهل فلسطين الذين تقاسموا مع «جيرانهم» أهل الجنوب خصوصاً واللبنانيين عموماً روح المقاومة من أجل تحرير الأرض والإرادة وتجسيد الحلم بدولة عربية مستقلة وذات دور في خدمة قضايا أمتها.
وشتان ما بين تظاهرات من أجل فلسطين ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتظاهرات من أجل الانتخابات المحكومة بقانون طائفي معاد بالضرورة لطموحات هذا الشعب الصغير إلى الوحدة والديموقراطية في دولة لجميع أبنائها بغير تمييز أو تفريق.
[ [ [
ما علينا وحديث المواجع فهو يكاد يكون بلا نهاية…
المهم أن وقائع الأمس قد حملت خبراً عربياً، مهماً، لكن له في لبنان بالتحديد صدى طيباً: فقد استقبل الرئيس السوري بشار الأسد موفداً سعودياً كبيراً هو الأمير مقرن بن عبد العزيز، الشقيق الأصغر لعاهل السعودية الملك عبد الله، ورئيس جهاز الاستخبارات فيها.
ولقد أوحى الخبر بأن هذا اللقاء فاتحة لعودة الروح إلى العلاقات السورية ـ السعودية، التي عانى العرب بمجموعهم واللبنانيون على وجه الخصوص الكثير من الوجع بسبب اختلالها إلى حد القطيعة والتنازع على مواقع النفوذ.
وجميل أن يحدث هذا التطور في الذكرى الرابعة لاغتيال رفيق الحريري. فدلالاته غنية جداً.
وغني عن البيان أن الوئام بين سوريا والسعودية سينعكس بشكل إيجابي على الداخل اللبناني أولاً، كما على مجمل الوضع العربي الذي بلغ في ترديه ما يبعث على اليأس مرفقاً بالاشمئزاز، خصوصاً أنه ترافق مع حربين إسرائيليتين كبيرتين أولاهما على شعب لبنان ومقاومته ودولته، والثانية على شعب فلسطين كله عبر غزة وحصارها الوحشي الذي شمل الماء والهواء والسماء والدواء والغذاء… وفي الحربين لم تنتصر إسرائيل برغم إسنادها المفتوح أميركياً، وتواطؤ بعض المسؤولين العرب معها على آخر المقاومين لمشروعها التوسعي ذي القاعدة العنصرية وهو ـ مرة أخرى ـ بعض مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة بكاملها…
ولقد أوحى ما صدر عن أجواء اللقاء بأنه بداية لتجديد علاقات التعاون والتنسيق بين الدولتين الشقيقتين، وسيكون له ما بعده، مما سيؤثر إيجاباً على الموضوع الفلسطيني، واستطراداً على أجواء القمة العربية المقررة نهاية آذار المقبل، والتي يؤمل أن تكون فتحاً لصفحة جديدة في العلاقات العربية ـ العربية، قد تسهم في وقف الانهيار، وعودة الروح إلى العمل العربي المشترك…
وبالتأكيد فإن مثل هذا الخبر سيزيح عن صدور اللبنانيين الكثير من المخاوف التي ترافق الحديث عن الانتخابات وكأنها حرب داحس والغبراء، أو معركة واترلو، خصوصاً في ظل أجواء الشحن الطائفي المتواصل.
فلنأمل بعودة الروح إلى العمل العربي المشترك، وبعودة العقل إلى العمل السياسي في لبنان وهذا بعض ما عمل له رفيق الحريري طيلة حياته.

Exit mobile version