طلال سلمان

طوق كراهية انتداب جديد

كلما اقتربنا من »لحظة الحقيقة« ممثلة بما يفترض أن يعلنه المحقق الألماني ديتليف ميليس في تقريره حول جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تعاظمت الحملة التي تريد اعتبار هذا التقرير الدولي نقطة الختام للتاريخ وليس لمرحلة منه، ولحظة ولادة للبنان آخر غير الذي عرفه اللبنانيون وعاشوا له وفيه.
والحملة دولية أساساً، وتحت قيادة أميركية فرنسية مشتركة، ولو أنها تستعين في ترجمة شعاراتها ومطالبها ببعض محترفي السياسة وبعض »قادة الرأي« في لبنان، ولا يمكن فصلها عن مجمل ما يدبر لهذه المنطقة، من خليجها إلى المحيط، والتي تبدو اليوم كأرض مشاع صاحبها من يملك القوة لأخذها.
خلاصة ما يُراد للبنانيين أن يصدقوه وأن يعتمدوه قاعدة لحياتهم غداً، أن لبنان الجديد لا يختلف عن لبنان الأمس في شكل نظامه فحسب، بحيث تحل الديموقراطية محل النظام الأمني، بل هو يختلف في »هويته« أيضاً عما كان طارئاً ومفروضاً عليه نتيجة اختلال ميزان القوى مع نهاية الحرب الأهلية، ما استولد الإقرار بعروبة لبنان ثم جاء اتفاق الطائف بدستوره الذي يثبت هذا الإقرار ويجعله قاعدة لمؤسساته التشريعية والتنفيذية.
ويتصرف العديد من محترفي السياسة ومعهم »بعض قادة الرأي العام«، بتحريض أميركي فرنسي مكشوف، كأن الهوية العربية قد سقطت مضرجة بدمائها في الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وأن »لبنان الجديد« ما كان له أن يولد في حضورهما (معاً) وأن غيابهما معاً كان شرطاً لانبعاثه سيداً حراً مستقلاً!
أليست مفارقة أن الأعظم تفجعاً في التصريحات المتلفزة أو المكتوبة على رفيق الحريري كانوا حتى اغتياله في صفوف أعتى خصومه العقائديين الذين لم يقبلوه ولم يقبلهم لا في موقع الحليف (ولو الانتخابي) ولا في موقع الشريك حتى وهو يندفع بلبنان نحو اقتصاد السوق ويتوجه إلى أوروبا ويستعين بشيء من الرعاية الأميركية، عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتحقيق ما كان يحلم به: إعادة إعمار لبنان؟!
لقد أسقطت جريمة الاغتيال التي دبرها عقل شيطاني لا يمكن إلا أن يكون معادياً للعرب والعروبة، الكثير من البديهيات التي تحكم الحياة السياسية في لبنان، وأولاها وأخطرها أن لبنان عربي بالانتماء والمصير، لا يمكن تغريبه أو تهجينه أو سلخه عن انتمائه وإلا فقد ما هو أعظم من معنى وجوده: مبرر هذا الوجود.
إن لبنان بلا رفيق الحريري يختلف بطبيعة الحال عن لبنان رفيق الحريري ومعه.
لقد خسر لبنان رجل دولته، كما خسر بعض ملامحه العربية.
لم يكن رفيق الحريري »انعزالياً«، بل كان خصماً »للانعزاليين«… وليس »الانعزاليون«، بالتالي، هم ورثته الشرعيين مهما بالغوا في استثمار جريمة اغتياله، ومهما حاولوا تحريض اللبنانيين على الكفر بعروبته… بذريعة النكاية بالعرب الآخرين.
وحتى إذا كان لطرف »عربي« دور مباشر أو غير مباشر في جريمة الاغتيال، فإن الخسارة قد أصابت العرب جميعاً، بمن فيهم ذلك »الطرف« المفترض، إذا ما ثبت أن له دوره في جريمة الاغتيال… بل إن هذه الجريمة الفظيعة ستعزز خط الانعزال داخل لبنان وخارجه على امتداد الوطن العربي.
إن العروبة في سوريا اليوم أضعف مما كانت قبل اغتيال الحريري. لقد لحقها كثير من الأذى، بمعزل عن مدى مسؤولية الأجهزة الأمنية السورية عن الجريمة.
كذلك فإن العروبة في فلسطين هي اليوم أضعف، لأن اغتيال الحريري أضعف خط الحماية المعنوية، والدعم السياسي لفلسطين القضية والشعب والسلطة الوطنية.
وبالتأكيد، فإن جريمة اغتيال الحريري تستخدم لتأجيج نار الفتنة في العراق، وإشغال أهله بأنفسهم بدلا من أن يواجهوا متحدين الاحتلال الأميركي لبلادهم المهددة الآن بالتمزق أشلاء.
لقد جاء الاغتيال في لحظة اختيرت بعناية شديدة، وبينما الهجوم الأميركي الإسرائيلي على المنطقة لاحتلالها واحتوائها وتدجينها في ذروة اندفاعته الشرسة كما نشهد في مختلف أنحاء فلسطين (التي تشطر فتتشظى حتى تكاد تذوب تماماً) والعراق الذي يغرق أكثر فأكثر في دماء أبنائه.
* * *
إن أسبوعين طويلين جداً يفصلاننا الآن عن الموعد المحدد لإعلان النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري.
هل من السذاجة أو من سوء النية أن تطرح تساؤلات جدية عن هذا التزامن في حملة الكراهية على الفلسطينيين والسوريين معاً، مع الموعد الذي كاد يصوّر كأنه سيفتح أبواب جهنم في لبنان والمنطقة؟!
كل مساء يجلس اللبنانيون أمام شاشاتهم الصغيرة ليطمئنوا إلى همة السلطة في تحصين حدودها الشرقية والشمالية لمنع تسلل عناصر التخريب والإرهاب إلى ديارهم العامرة!
لقد اكتشف اللبنانيون، متأخرين، دير العشائر وينطا وحلوه وجنتا ويحفوفا وقوسايا وعرسال والنبي سباط والقاع والقصر والعريضة والدبوسية ومعابر النهر الكبير وسائر منطلقات المخربين والمهربين والمأجورين الموفدين إلى لبنان لزعزعة استقراره وتخريب اقتصاده (بتهريب المازوت والبنزين والمواد التموينية… إلخ).
إن دوائر أجنبية عديدة، وكثرة من السياسيين المتعيشين على »الانعزال« الذي تستولده الطائفية فيستولد العنصرية، وبعض »قادة الرأي العام«، يسهمون بدأب يستحق التهنئة، على طريقة دودة القز، في نسج شرنقة الكراهية التي سوف يختنق لبنان واللبنانيون في داخل حريرها الثمين!
إن لبنان يحاصر نفسه بطوق من الكراهية لأهله الأقربين، ويخرج من جلده ومن هويته، بذريعة الانتقام لرئيسه الشهيد رفيق الحريري، في حين أنه بهذه المغامرة الحمقاء التي دفعته إليها الوصاية الدولية، إنما يخنق نفسه بنفسه، فضلاً عن أنه كمن يغتال رفيق الحريري مرة ثانية.
إن الطائفية ولادة العنصرية… والعنصرية قاتلة الأوطان والدول.
وإذا كانت الإدارة السورية قد ارتكبت خطايا وأخطاء فاحشة في لبنان، ودائماً بالشراكة مع معظم قياداته السياسية، فإن الرد عليها لا يكون بالاندفاع إلى الانتحار في جحيم العنصرية ولادة الانعزال والغربة عن الذات بمكوّناتها الأصلية.
لقد كان القرار 1559 بمثابة وضع يد الدول، وبالتحديد فرنسا والإدارة الأميركية على لبنان: عاد الانتداب بصيغة أكثر عصرية، متكئاً على خطيئة التمديد، بكل ما سبقها ورافقها من ارتكابات حيّدت جمهور اللبنانيين، بل هي استعْدَتْهم، على السلطة المتهالكة، وكشفت »الوجود السوري« وقد اتخذ شكل »الوصاية« المطلقة، ما استخدم ذريعة لتبرير انتداب أكثر عصرية في شكله الدبلوماسي الأنيق وفي شعاراته الديموقراطية.
فلما وقعت جريمة اغتيال الحريري، اكتسب هذا القرار وجاهة لم تكن له، وقبل به ولو مرغماً بعض الجمهور اللبناني، برغم ما رآه فيه من افتئات على عروبة لبنان وسيادته. كانت المقارنة مستحيلة.
لكن حملة الكراهية التي أطلقت بألسنة وأصوات عديدة في الآونة الأخيرة، واستباقاً لتقرير لجنة التحقيق الدولية، تحاول استثمار الجريمة التي أدانها العالم بأسره، لإخراج لبنان من هويته ومن لغته ومن موقعه.
إنها محاولة لاغتيال لبنان بذريعة الانتقام لرفيق الحريري.
وليس بالوصاية الدولية، وبطوق الكراهية الذي يُراد سجن لبنان فيه، يكون الانتقام لرفيق الحريري الذي عاش قومياً عربياً، واستشهد من أجل العروبة وفي سبيلها، وليس من أجل العنصريين من أهل الانعزال، المعادين للبنان الوطن، الذي يكون عربياً، أو يصير كونفدرالية من الطوائف المقتتلة، تسفح فيها دماء رفيق الحريري كل يوم.
فلنحمِ رفيق الحريري من أن يزوّر تاريخه، ومن أن يساء إلى ذكراه بأن ينسب إليه الانتساب إلى ما كان يقاتله من دعاوى الانعزال والعنصرية ومعاداة لبنان الوطن العربي بداية وانتهاء.

Exit mobile version