طلال سلمان

طوفان

حين تُشرف على سهل البقاع، ومن قبل أن تصله فتكاد تغرق، مع سيارتك، في وحول الأرض التي كانت مصدراً للخير، يمكنك أن تقرأ »المشهد السياسي العربي« بأدوات تعبير لبنانية: جاء الطوفان في موعده المحسوب والمعروف تماماً فلم يجد سداً يمنع سيوله من اجتياح البلدات والقرى، أو احتياطات تحد من أضراره المدمرة!
ليس باستطاعة أي »مسؤول« الادعاء بأن الطبيعة قد غيّرت طبيعتها، وأن »الدولة« قد فوجئت به: فالموعد كان على ألسنة العجائز والأطفال، تعلنه نشرات الأرصاد على مدار الساعة، وتبثه فضائيات الثرثرة العربية في كل فاصل بين أغنيتين راقصتين، كما بين كل تهديدين يطلقهما رامسفيلد بالإنكليزية فيعرّبهما المذيع »العربي« بحماسة يستهجنها صاحب التصريح نفسه، خصوصاً أنه كان يهدد هذه الأمة بدمار شامل يذكّر بما أحدثه طوفان الغضب الإلهي أيام سيدنا نوح!
مع ذلك فقد انشقت الدولة على ذاتها، واتهم بعضها البعض الآخر بالمسؤولية عن الطوفان، واشتبكت الحكومة مع الحكومة لأنها لم تتنبّه فتحتاط وتعيد فتح المهارب للسيول حتى لا تجتمع فتجتاح كل ما يقع في طريقها، أو توفر وسائل إنقاذ للمنكوبين المحاصرين في بيوتهم المتصدعة الجدران والسقوف.
.. ثم تزاحم الوزراء مع النواب على أبواب الوجهاء يطلقون سيلاً من كلمات المواساة الفارغة من أي مضمون، والتي ألفوا تردادها بغير تفكير في مجالس العزاء، ويتعهدون بطوفان من الخطابات والبيانات والتصريحات طلباً لتعويض لن يعيد بناء البيوت المهددة بالسقوط والمزروعات التي أغرقتها السيول، (وإن كان سيفيد منه أصحاب المسعى وأصحابهم المقرّبون فيقبضون زوراً باسم الضحايا، كما جرت العادة دائما حين تتحول النكبات الوطنية إلى مصادر للثروات الشخصية المباغتة، تجيء إلى أصحاب النفوذ وكأنها هدايا بابا نويل)…
وماذا بعد المجاملات وواجب المواساة، وكله مصوّر بالألوان؟!
يمضي كل في سبيله ويبقى المنكوب محاصراً بتعاسته وحده، يحاول أن يبتدع وسائط (شراعية) للتنقل بين ما تبقى من غرف منزله الآيل للسقوط، متجنباً النظر إلى مواقع الكسارات التي نهشت الجبال في الأعالي بأسنان فولاذية ففتحت فيها مجاري إضافية، وأزالت موانع طبيعية كانت تأخذ السيول إلى مسارب معروفة… وسبحان الذي ييسّر أمر تحويل الصخر إلى ذهب و»البحص« إلى أرصدة بالدولار »للشاطر« ولمن يحمي الشاطر من المساءلة بأن يمنحه حصانات النيابات والوزارات وربما الرئاسات كلها معاً!
… في فلسطين أيضاً، طوفان ولكنه من دماء أبنائها البررة.
وفي فلسطين، أيضاً، تتهاوى البيوت العابقة بأنفاس التاريخ، ولكن تحت ضربات جرافات الاحتلال الإسرائيلي المعزّز بسيل المعونات الأميركية، صواريخ وطائرات وأسلحة تدمير شامل، ومالاً سائلاً لإسناد اقتصادها المهدد باختناقات جدية.
يشيّع الشهداء الشهداء إلى ميدان المواجهة مع الجنود المصفحين، المتحصنين خلف مدافع دباباتهم ورشاشات مجنزراتهم، تساندهم وتفتح لهم الطريق طائرات الأباشي الأميركية بقذائفها الحارقة… ومع تزايد أعداد الشهداء فإن مواكبهم تتواصل ويتزاحمون داخلها بالمناكب، لكأنهم يتوالدون في الميدان، فيغدو الواحد منهم عشرة، مئة، ألفاً، وينهمرون كالسيل فيحاصرون القتلة المدربين على المواجهات جميعاً ما عدا مع مثل هذا الطوفان من الدم الأصلب من السكين!
وتنشق الدول العربية عن العروبة، »لتحرر« نفسها من فلسطين وعبئها الثقيل، مدعية أنها تريد التفرغ لمواجهة الطوفان الأميركي الجديد الذي يتهددها في العراق، كأنما الهارب من القدس سينفع في حماية بغداد، أو كأنما الذي صالح أرييل شارون على دم أهله سيقاتل جورج و. بوش وهو يتقدم ليبني الديموقراطية في أرض الرافدين ولو بالاحتلال المؤقت، وبواسطة مندوب سام أميركي برتبة جنرال!
في أوروبا طوفان بشري يحتشد فيه كل الذين ذاقوا ويلات الحروب، يرفعون الصوت بالاعتراض، ويرفعون قبضاتهم ضد »القتلة«، الذين يهرقون دماء شعب العراق من أجل نفطه..
أوروبا تنتصر بجماهيرها للعرب الغائبين فتشتبك مع »زعامتها« الأميركية المهووسة بالقوة، فيذهب إليها المسؤولون العرب لائمين ومحتجين، ويكادون يتهمونها بجرم حماية »النظام الدكتاتوري« في بغداد، بينما هي تحاول حماية الحضارة الإنسانية، وحماية حق الشعوب في الحياة، تاركة لها حق »محاسبة« سلطانها الجائر..
والبابا المثقل بأمراض الشيخوخة وهموم الكون يرفض »الحرب الصليبية« ويدين دعاتها، حتى وهم في حضرته في الفاتيكان، ويدعو الناس في كل أرض إلى الخروج في طوفان بشري كاسح، يوم الخامس من آذار المقبل، رفضاً للحرب ودعاتها وتجار الدماء، فينصر العرب (والمسلمين).
… بينما قادة العرب والمسلمين يغرقون في طوفان من خلافاتهم التفصيلية التي لا تنتهي حول شكل »القمة«، هل تكون »طارئة« أم »عادية«، وهل تعقد في مكانها المقرر، أم تنقل إلى مقر الجامعة في القاهرة، أم إلى أبعد من ذلك بكثير، إلى شرم الشيخ التي لا جماهير فيها ولا جامعات ولا طلبة من أهل الشغب!
في البحرين لا يريدون »القمة« لأنها قد تفسد على قادة البحر الأميركيين اتصالاتهم وحركتهم الدائبة لإدارة الحرب على العرب (والمسلمين) في العراق تحت عنوان »خروج صدام حسين على الشرعية الدولية«.
وفي الخليج (الذي أسقطت عن تسميته الرسمية هويته العربية، وتُرك للجغرافيا وحدها أن تحددها) لا يريدون القمة لأنها قد تحرجهم فتخرجهم، فكيف يطلبون ممّن لم يستأذنهم وهو يتخذ من أرضهم قواعد لعسكره، ألا يتحرك إلا بإذنهم، وهو الذي ينظر إلى نفسه وكأنه قد »حرّرهم« أو أجارهم من احتلال محتمل، فكيف يعاملونه الآن »كمحتل«؟!
ثم على فرض أنه »محتل« فمن يستطيع مواجهته أو منعه من
التحرك فوق أرضهم بقوته الجبارة، بينما هم لا حول لهم ولا قوة إلا… لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟!
مع هذا »الطوفان« لا جدال حول غزارة الدم العربي الذي سيُراق فيه، ولا حول الدمار الذي سيخلفه داخل العراق وخارجه، على الأرض كما في النفس العربية.
الجدل فقط حول الموعد. وموعده يحدد القمة العربية. أليست مهمات القمة تقنين نتائج الهزيمة التي تلحق بالعرب و»شرعنتها«.
وفي انتظار »الطوفان« الجديد يهاجم بعض العرب لبنان، لأن وزيره ومن موقع رئاسة القمة العربية، تجرّأ فسمح بتمرير »بيان«، مجرد بيان، يحدد فيه موقفاً معارضاً لمشروع الحرب الأميركية على الأمة العربية ممثلة بشعب العراق.
.. وتشن بعض الأوساط العربية حملة شعواء ضد سوريا لأنها حاولت وما تزال تحاول استنقاذ كرامة الأمة بموقف قد لا يمنع الحرب لكنه على الأقل يحمي العرب من أن يتهموا بأنهم قد أكلوا لحم أخيهم نيئاً، أو بالأصح: أنهم أطعموا لحم أخيهم العراقي للوحش الأميركي، كما هم يطعمون الآن لحم أخيهم الفلسطيني للوحش الإسرائيلي!
.. وفي انتظار موعد »الطوفان« الأحمر الجديد، يتابع اللبنانيون إزالة آثار الطوفان الذي اجتاح سهل الخير في بلادهم، وليس لهم من معين إلا الله…
… وتستمر إعلانات »لبنان منوّر« بينما التيار الكهربائي متقطع، حتى لا نقول إنه »مقطوع«، وبينما يعيش أهله في ضنك تحت أثقال الديون المنهكة، و»يفرحون« حين تغيب »الدولة« فلا ينعقد مجلس الوزراء لأن ذلك يوفر عليهم مشكلة إضافية من مشكلات الصراع في قلب السلطة لإلغاء الدولة.
وهموم اللبنانيين في قلب »الطوفان« الذي أحدثه تجاهل الطبيعة وقوانينها المنطقية هو عيّنة بسيطة من حالة الفوضى العربية العارمة، والانهيار الشامل، والابتذال المريع الذي يمهّد للكوارث القومية بل يبرّرها ملقياً مسؤوليتها على الوحيد المؤهل لحملها: هذا المواطن العربي المقموع والممنوع من التعبير عن رأيه في حكامه كما في محتلّيه!

Exit mobile version