طلال سلمان

طوفان.. نصرالله

لا ينالك زمن.. تجرأت على المستحيل، حتى فزت بالشهادة.. وكان ما كان وما هو باق لغد لا عمر له. بلغت ذروة الأزمنة يا سيد؛ فمن مثلك؟ لا أحد، من زمان، إلى آخر الأزمنة. لكنك تركتنا باكراً. إنما، أنت باقٍ. مثلك فقط المعجزات.

تعلمنا منك، كيف تخدم القضايا النبيلة: الحرية، الرفعة، الإنسانية، المساواة، الحسم، التجرؤ على رتبة الشهادة. كنت تهجس بالحرية والتحرير. فلسطين عروس الأحزان، ومن حقها أن تحتفل بغير الآلام. قدت بالشهادة والشهداء، مسيرة السمو الإنساني، إذ، لا يعلو الإنسان أحد. لا سموَّ يعلو سماوات الحرية. ثم.. الشهداء، فخر القضايا النبيلة.

لم تكن وحيداً، ولكنك وحدك كنت مختلفاً. لذا تفوقت في ما لا يسمى بعد. الاستشهاد جائزتك الموجعة. كان الهاجس عندنا أن ترزق فلسطين بالحرية.. لكنك كبوت.. فتغير العالم.

أكرّر: تغير العالم. صار ناقصاً، وأحياناً فارغاً، إلا من هرطقات الكفر بالإنسانية.

أحياناً، يا سيد، كنت أتجرأ على الكفر. أسأل أين أنت يا الله؟

لم يجبني أحد بعد.

أقنعت نفسي بمعادلة مقنعة: “السيد لا ينتهي”. عمره الإنساني وسع الأزمنة. أحلم وأرى: كنت أراه شهيداً مذ عرفته وصافحته وكلامي له كان صمتاً وإصغاءً. أصحّح الكلمات: كنت أراه شهيداً منذ طفولته.

لست ساذجاً. ذات لقاء في النبعة، تعرفت غيابياً على ولد ساحر. قامة قصيرة. وجه يتساءل.. وأب ساهر عليه ويتطلع إلى غدٍ مريح.. وكان الوالد، يبيع مع التعب، كلاماً ذهبياً: “الله معك”. “الله يرضى عليك”. “إلك الله يا ظالم”. والصبي الصغير، ينتظر يوماً آخر، لا يشبه ما مضى.

حسنٌ هذا، تعلّم من والده الحب والصدق مع الذات والعطاء الذي يشبه طقس الصلاة. تمرَّس بالعلم والتعلم. كبُرَ حسن. رُزِق كفاءة المنعة والصبر.. وانتظار المهدي الذي يُنير له طريق تُوصله إلى تخوم الأزرق السماوي.

كبرنا. التقينا على بعد. أتابعه ويقرأني. ما عرفته ولا صافحته. أهديته كتابي. وصلتني منه تحية شكر. ثم؛ وإن بيننا صمت متبادل. إلا أن لغتنا كانت مفهومة وملتزمة بلا رياء أو جائزة.. وعليه: ذات يوم، يتصل بي أحدهم، ثم إحداهن. أبلغاني تحية السيد. ثم زيارة مفتوحة والإقامة في الخطوط الأمامية. وكان اللقاء بمحاذاة خطوط التماس مع ثلة من رجال بلا أسماء، بلا أسماء بالمرة. الأسماء ممنوعة. وحده إسمي كان مسموحاً. خمسة أيام وليال، تعرفت فيها على معنى الإنسان المقاوم. لم أتعرف على ما لديهم من أسلحة، لأنني أصلاً، لم ألمس سلاحاً. عطب مزمن. فشل مزمن. لم أتعرف على أسلحة، إنما على مقاتلين.

هناك، على خطوط التماس، في بيت خرافي مغطى من فوق ومن كل جانب ومعزول عن العالم، برغم أن البيت في وسط البلدة “معجزة الاختفاء..”. هناك؛ تعرفت إلى فلسطين. رأيتها في الليالي، كان السهر خلف الشاشات. مراقبة العدو 24 على 24 ساعة.. كنت أفهم القليل وأطنش على جهلي، المفاجأة كانت في تعرفي على مقاتلين ذوي اختصاص: طب. فلسفة. علم اجتماع. رياضة إلى آخره من المهمات والعلوم التي لا علاقة لها بالمقاومة.. كنت أتصوّر أن المقاوم ذو مستوى علمي مناسب ولكن غير فاخر.. فوجئت، هم أهل اختصاص. يلوذون إلى غرفهم، و”اللابتوب” أمامهم. فيما أنا لا أعرف وسيلة سوى القلم. أحسست بتخلفي. وكانت لقاءاتنا على الحصيرة أرضاً، كانت الأسئلة السياسية أساسية. فوجئت، أن أكثرهم، يعرفون السياسة. هم أهل اختصاص عالٍ. أساتذة جامعيون و.. لا فرق بين مقاوم ومقاوم، إلا بما ملكت يداه.

تعرّفت على الحدود. على التخوم. على أرض المعارك. عن الاختباء تحت الأرض. في الخنادق والأنفاق والغابات، ثم الانقضاض على العدو أثناء استراحته.. والغريب، أن ما عرفته لم يكن تبرعاً منهم، بل كان تساؤلاً واحتيالاً مني، مُدعياً أنني لا أعرف شيئاً. بل، ما كنت أعرف شيئاً.

الصمت لغة التعبير الرائع. عندما عدتُ، طلبت أن أعرف الأسماء الحقيقية، لنقيم وصلاً.. عبثٌ. الأسماء المعطاة مجرد تأليف، وفي كل مرة جواب يختلف عن سابقه. عرفتهم بلا أسمائهم. عرفت، لأنني كنت في تجربة كهنوتية، أن الإيمان، لا يحتاج إلى شرح. الإيمان قناعة وحساسية وانغماس. لذلك، غيّروا إسمي. لم أعد نصري. صرت أرتاميوس. الاسم صعب ولكنني آخيته.

***

يا سيدي الذي لن يغيب. تركتنا في زمن صعب. شيء كالمستحيل، داهمنا. كان النضال جائزة أخلاقية وفعلاً سياسياً وواجباً أخلاقياً: الأكثر جلالاً عندي هو الحرية، والحرية لا تُورّث، بل تُستولد. كانوا يستولدون أفقاً مطعماً بجائزة التحرير.. غريبٌ أمرهم. اكتشفت أنهم يشبهون المستقبل.

لا إنسانية بلا حرية. هي الأول والأخير وما بينهما. والمناضلون من أجل الحرية، ذوو أصول واحدة: “متى استعبدتهم الناس وقد ولّدتهم أمهاتهم أحراراً.. إنه نضال لتحقيق “المستحيل”، لأن الحرية مخيفة أكثر من الأسلحة.. كان لدى السيد إيمان ديني مرصوص وانفتاح روحي. يستلهمون منه ويعيشون معه.. من دونه بالمعنى المادي المباشر.

لم أكتشف تدينه. كنت أقرأه بطريقة مختلفة. كنت أتعلم من صمته الديني لأننا في النهاية، كلنا ماضون إلى قيامة مجهولة. إلى حلم. الحرية لفلسطين هي الآذان والقدّاس والسلام عليك يا فلسطين، يا أمنا مريم العذراء، ويا قداس القربان، ويا.. عندما نصاب بإعجاز أو إثم أو انسداد أفق، كنت أسأل: “أين أنت يا الله”؟

وعليه، لا أحد تجرأ بعد على كتابة سيرة السيد بتمامها. يلزمنا زمن هادئ قليلاً، لأن سيرته ليست من كلام. إنها مسيرة لم تكتمل.. بل ذبحت.. ولا حاجة للكلام. فالجرح ينطق يا فم، ودم الفداء يتكلم. هكذا، خرست الكلمات.. وباستشهاده، عرفت بلاغة الصمت، ورحابة الشهادة.

***

تباً.. أهكذا تكون الجوائز؟

تباً.. المسيرة لم تكتمل بعد. والمسيرة ليست من كلام. معروف أن النهايات تصل إليها في نهاية الشوط أو المعركة.. لماذا مضيت قبل الأوان، بل باكراً جداً.

عفواً.. السؤال غلط.

هذا سؤال غبي. أنت يا سيد، لست ماضياً أبداً. أنت بما أنجزت وما عرفت من جراح، ما تزال مقيماً في ضوء غيابك المنير. منارة نسترشد فيها نضالاً وإنجازاً. وما يُطمئن قليلاً، أن الخطوط ليست دائماً مستقيمة. وعليه، كان العالم والمفكر غاليليو غاليلي على حق، عندما أعلن على الملأ “أن أقرب خط بين نقطتين هو الخط المتعرج”. الخط المستقيم مستحيل. الإنسان متعدد وكذلك الحياة، ولا يشبه نهار ما، ما سبقه من نهارات.. ولا يتشابه الظالم مع المظلوم.

إنما.. إنما.. إنما:

كيف تكفكف الأحزان؟

تعبنا من دمائنا.

فلسطين لونها أحمرٌ قانٍ يشبه فجراً يتكرر. نكاد نقترب من الكهولة. وفلسطين تدب على جراحها وتسير خلف شهدائها بسرعة كي تلتحق بمسيرة شهيد أو أكثر.

“كتير هلقد”.

لا نستطيع احتمال هذا السيلان الدموي. غزة بحيرة دماء وسماء سوداء وشعب ما زال يؤمن، بأن الدم سيكشح عتمة الليالي. هؤلاء يُولدون ويموتون بسرعة. الأرحام لم تجف، ولكن دماء الشهداء جفت. وصارت حجارة غزة ملونة بالأحمر. الأزرق الغزاوي ممنوع.

وحده، دم الفلسطيني المسفوك، يُعترف به.

وبرغم كل ذلك، لن نحني جباهنا.

زمنٌ صعبٌ قادمٌ يا سيّد. زمن امتحان البقاء والنقاء والرجاء. حاجتنا إلى صلابة إيمان. فلسطين لأهلها. صعب ذلك الآن. إسرائيل لا تجرف الأراضي. إنها تجرف الشعب برمته. والرئيس الأميركي يعرض بسخاء، تشريد الفلسطينيين، بلا فلسطينيتهم، إلى الصحاري العربية المجبولة بالنفط وشيكات الدولار وما تيسر من أفراح وسهرات وحدّثني فلان عن فلانة.

زمنٌ صعبٌ ينتظرنا ولكن برغم السواد الذي يُحاصرنا، لا نزال نؤمن أنك ما زلت حياً.. وأنت كذلك الآن، لأنك لست وحدك، حيث أنت.

ظلك هنا.

صوتك هنا.

نصك هنا.

أخلاقك هناك..

أنت ضد الغياب. أهم ما خلّفته، بعد غيابك الشاهق ألماً ودمعاً، أن جموعاً كبيرة تستمر مؤمنة بك. كأن، لا يكتمل دينهم من دونك ولا تكتمل آياتهم من دون آيتك.

في يوم رحيلك الأخير، بدا لنا، أن هناك طوفاناً بشرياً. من المفيد أن نجد له عنواناً: “طوفان نصر الله”.

من جهتي، سأُطوّع خوفي الطفولي جداً. سأعتزل كنية البوم التي اتهمت بها في مساري. سأفقد كفاءة اليأس في طمأنة الجبناء..

***

أخيراً.. أنت في مقامك الأبدي الجميل، ومن أجل التواصل معك في غيابك، سنُعلمك أن ضريبة النسيان مرفوضة. أي، لن ننساك وسنلبي دائماً الجرس الفلسطيني. و.. لبيك نصرالله.

سننتظر كثيراً، إلى الزمن الذي لا يجد فيه الصهيوني مكان إقامة فوق أرض فلسطين المقدسة.

هل يحقُ لنا أن نحلم؟

لِم لا؟

المناضلون والثوار لا ينتظرون الملائكة لتفتح لهم أبواب الانتصار.

الرحلة الأخيرة.. تبدأ اليوم.. وكل يوم.

اليأس انتحار. ونحن لن..

Exit mobile version