طلال سلمان

طهران واشنطن عبر بيروت

أعلن رصاص الابتهاج في بعض بيروت وبعض ضواحيها انتصار الفريق الإيراني على الفريق الأميركي في المباراة المثيرة بينهما فوق الملعب الفرنسي بمدينة ليون.
الانحياز هنا سياسي بحت ولا علاقة له بالكرة أو بالمونديال،
أما في طهران فإن النصر الكروي سيزيد من حدة الصراع السياسي بين ورثة »اللاعب الإيراني المقدس« الذي كان قد ألحق الهزيمة الأخطر بالنفوذ الأميركي في الربع الأخير من القرن العشرين.
بل ان هذه المباراة تحديدا قد تشكل منطلقا لهجوم جديد وأكثر عنفا ضد الرئيس الوديع الملامح والراقي اللغة والبطيء رد الفعل السيد محمد خاتمي.
والحقيقة ان الهجمات على هذا المعمّم الآتي من ثقافة تتجاوز نطاق »التقليد« المتبع في المؤسسة الدينية الصارمة في نهجها المحافظ بل والمتزمت، لم تتوقف لحظة واحدة منذ فوزه الساحق في انتخابات الرئاسة قبل ثلاثة عشر شهرا،
وأمس بالتحديد، وقبل ساعات من بداية المباراة الحدث، كانت »جمهورية خاتمي« التي ما زالت تكافح لاثبات وجودها تتعرض لنكسة خطيرة بخسارة »حارس المرمى« المتهم بالليبرالية، وزير الداخلية عبد الله نوري.
هي الضربة الثالثة،
الأولى كانت »قضية كرباستشي«، رئيس بلدية طهران الذي اخترق المسرح المحظور وفرض نفسه طرفا، مع أنه »من خارج السرب« الذي دخل من باب وراثة القائد العظيم الخميني ثم نصب نفسه وصياً وقيماً على الخمينية..
أما الثانية فكانت أوضح من أن تحتاج تحليلاً أو تفسيراً: قضية جريدة الخط الخاتمي »جامعة« أي المجتمع التي بالكاد أكملت شهرها الثالث، ولكنها حتى بأعدادها التي لما تبلغ المائة، نجحت في أن تشكل المنبر المفتقد لخط »الاعتدال« الذي طالما استنفر المؤسسة الدينية المتعسكرة، الآن، أو المؤسسة العسكرية التي تموّه قبعتها بعمامة من إنتاج قم.
وعلى حد وصف أحد كبار المجتهدين السياسيين في طهران فإن الرئيس خاتمي لا حصة له في الربح الذي حققه الفريق الإيراني في مواجهة الأميركيين بينما الخسارة لو وقعت كانت ستحسب عليه وحده!
إن الهجوم المضاد على خاتمي مستمر، ولولا بعض التحفظ لاعتبر الرجل الذي فاز بأصوات أكثر من عشرين مليون إيراني عميلاً للأميركيين!
كأنما تلك الملايين من الإيرانيين قد أعطت أصواتها »للشيطان الأكبر«، ممثلاً ببيل كلينتون ولم تعطها لأحد تلامذة الخميني المستنيرين ممن افترض انه اما وقد اطمأنت الثورة الإسلامية الى رسوخها في الأرض وفي الضمائر فإن من حق الإيرانيين أن يفتحوا نوافذهم على العصر، وأن يكملوا بناء وطنهم عبر المواجهة ولكن مع الأخذ بالاعتبار حقوقهم في حياة طبيعية، لا يحكمها التزمت المنهك بذريعة الخوف الدائم من شبح الطاغوت، بحيث يتعثر الاقتصاد، ولا تنجز الخطط الخمسية للتنمية في مواعيدها، وتتراجع قيمة النقد، وتتسع دائرة المتذمرين فتشمل »البازار« والعديد من قوى التغيير في المجتمع، كالشباب والنساء، وليس فقط »الليبراليين« أو المطالبين بالانفتاح للعودة إلى حظيرة التبعية للغرب الأميركي.
ومن الظلم الشديد، إضافة الى انه من الخطأ الشديد، تصوير الإيرانيين، سواء في الشارع أو على قمة السلطة، وكأنهم منقسمون بين الخميني وكلينتون، أو بين الثورة الإسلامية والغرب الكافر!!
وخلال مباراة »الانكفاء المزدوج« شهدت جماهير الكرة في أربع رياح الأرض كيف ضم اللاعب الأميركي يديه في صلاة قصيرة بعدما رسم شارة الصليب على وجهه، سابقاً في ذلك توجه اللاعبين الإيرانيين إلى الله بالشكر بعد كل من هدفيهما الممتازين، ثم في نهاية المباراة الحاسمة، والتي انتصر فيها اللون الأحمر الإيراني على اللون الأبيض الأميركي.
إن التيار المحافظ في إيران يعتمد خطابا عسكريا ضد المجتمع المدني، على حد ما يقول بهزاد نبوي بلسان »مجاهدي الثورة الاسلامية«.
والعشرون مليونا من الناخبين الذين حملوا خاتمي الى سدة الرئاسة في وجه تيار المحافظين المتحصنين في الأجهزة الأمنية، ليسوا طوابير من المقاتلين الجاهزين للتصدي، وبالسلاح إذا لزم الأمر… كما أنه يستحيل جمعهم وتأطيرهم وإنزالهم إلى الشارع لمقاومة »خصومهم« المنظمين والذين يتحكّمون بمقدرات الدولة في ظل شعارات الثورة ومن داخل »خط الإمام« الذي يمكن للجميع أن يدّعوا الانضواء في فيئه الوارف.
لبنانياً كانت المباراة فرصة للتعبير المزدوج عن استمرار الإيمان، لدى قطاع واسع من الرأي العام، بقدرات الثورة الإسلامية في إيران، كما عن مشاعر الغضب ازاء الولايات المتحدة الأميركية التي تفتقد النصير المتعاطف في السياسة كما في كرة القدم، حتى لو لجم الخوف من سطوتها الألسنة في معظم دول الكون.
لقد أثبتت إيران أنها قوية في المواجهة التي امتدت من العسكر الى الاقتصاد والى القيم الاجتماعية لكن تصرفات التيار المحافظ توحي وكأنهم أشد خوفا من المواجهة السلمية، سياسيا وفكريا وثقافيا واقتصاديا، منهم في المواجهة شبه الحربية.
وهم محكومون بأن يصيروا أضعف في الخارج كلما حاولوا إثبات قوتهم في الداخل، ذلك أنهم ينهكون هذا الداخل ويضعفون وحدته بفرض أسلوبهم المتزمت والمتقوقع على ذاته والظاهر خوفه من العصر.
يكفي للانتصار في مباراة كرة قدم حارس مرمى ممتاز ومهاجم مقدام،
أما في المواجهة السياسية فالأمر أكثر تعقيدا، ومجرد اللجوء الى الخطوط الدفاعية بداية لخسارة قد لا يمكن وقفها عند حدود مقبولة،
وإحدى أعظم ميزات الإمام الخميني، كثائر، أنه اعتمد سياسة هجومية ظلت تجدد نفسها لغة وأسلوبا وتنظيما حتى يومه الأخير.
وإيران اليوم تبدو أكثر انهماكا بداخلها من أن تكمل الهجوم الثوري العظيم،
وبالتأكيد فإن خصم الثورة الإسلامية ليس الرجل الذي وصل الى الرئاسة على طريق الخميني، بل هو المنطق الذي يحاول احتكار الخميني والثورة والشعارات جميعا ليحتكر السلطة،
… علما بأن أكثر من عشرين مليون إيراني قد قالوا »لا« مدوية لهذا المنطق الخطر، والذي لن يزينه هدفان كرويان في المرمى الأميركي!

Exit mobile version