طلال سلمان

طلال سلمان: حياتي لم تكن كذبة

يحلو لـ«الأستاذ طلال»، كما يناديه الجميع، حتى أولاده أحياناً، أن يتذكّر بداياته. لا يخفي شيئاً عن حياة الفقر التي عاشها، ويشيد بـ«جانب عظيم» لخلفيّته الريفية في صناعة شخصيته. يحكي من خلف مكتبه رئيساً لتحرير واحدة من أبرز الصحف العربية، ولا ينتظر وقع كلامه على محدّثه. ما يعنيه هو هذا الشعور بالاعتزاز بما حقّقه. شعور رآه في عينَيْ والده، الدركي، عندما كان يحمل «السفير» بين يديه مبدياً سروره. «كان يعني لي كثيراً أن أرى نظرة اعتزاز أبي بي، كما اعتزاز أهالي بلدتي المنتمية إلى منطقة فقيرة ومحرومة. أنا ابن الدركي من شمسطار، لكني أسّست جريدة في بيروت، يقرأها الجميع في الوطن العربي»
رحلة طلال سلمان غنية. يشعر المستمع إليها بأنها تحتاج إلى أكثر من حياة، كي تتّسع لهذا الكمّ من الأحداث والشخصيات التي عايشها. رحلة تغيّرت فيها خرائط ودول ورجالات، وعبرت أزمنة، وبقي الثابت فيها فلسطين. ولأنها بهذا الغنى، يصعب إيجازها في مقالة – تحية إلى الصحافي الذي اعتقد عام 1974 أنّه يطلق جريدة ناجحة، ليجدها بعد 43 عاماً مدرسة يحنّ إليها تلامذتها كما أساتذتها. ولأنه صحافي أولاً وآخراً، ستقتصر هذه المقالة على سرد جزء من رحلة طلال سلمان الصحافية التي لم يبخل في سرد تفاصيلها. ورغم أن الجلسة الأولى معه طغت عليها الأسئلة الاتهامية، كان مستعداً للاعتراف قبل طرح أي سؤال عليه. كان ذلك في أيلول (سبتمبر) 2016، بعد ستة أشهر على عودته عن قرار إقفال «السفير» الذي طُرح أول مرة في آذار (مارس) من العام نفسه. ورقة الاعترافات سلّمها لنا عن طيب خاطر، لكنها لم تتضمّن ما كنا نريده للاستمرار في كيل الاتهامات. قال بحزن واضح: «لست أنا المقصّر في المهنة، لكن المهنة التي أتقن القيام بها بدأت تنقرض». لا يتعلق الأمر بالتطوّرات التقنية فحسب. يذهب إلى المفاهيم والأفكار والمبادئ التي كبر عليها، وحاول أن يوصلها للناس، وباتت اليوم مجافية للعصر «بينما كنت أعتقد أنها هي القادرة على أن تفتح باب العصر». هذا ما جعله يعلن استسلامه: «لا يمكنني أن أقاوم اغتراب المجتمع عن ذاته. يصعب عليّ أن أقرّ بأن هذا الواقع القائم الآن هو الحقيقة الباقية والخالدة إلى الأبد. أن أعترف بذلك يعني أن حياتي كانت كذبة، وأنا أعرف أنها ليست كذلك لأنني عشتها».

البكالوريا ليست مهنة

درس طلال سلمان في مدرسة رشميا الرسمية حتى الصف الرابع ابتدائي، وكان مميزاً في كتابة مواضيع الإنشاء حتى إنّ أستاذه عمد مرة إلى تعليق مواضيعه على أبواب الدكاكين في القرية ما جعل والده فخوراً به. لكي ينهي المرحلة الابتدائية، انتقل إلى بيت جده في شمسطار. أما نهاية المرحلة المتوسطة فكانت في المختارة، حيث درس على يد «الأستاذ فوزي عابد»، الذي رسم له يوماً دائرة حمراء على أحد مواضيع الإنشاء التي قدّمها له، وكتب فيها «إذا ثابرت فستكون صحافياً كبيراً أو محامياً قديراً».

لعبت الصدفة دورها في إدخاله إلى المدرسة العاملية حيث تعرّف إلى صلاح ستيتية. وبعدما أنهى صف البكالوريا قسم أول، كان والده قد انتقل إلى المتين. في أواخر فصل الصيف، دعاه والده إلى «كزدورة»، أبلغه فيها نهاية المشوار. قال له: «لقد أوصلتك إلى هنا وهذه قدرتي، لا يزال أمامي ستّة غيرك. هذه أربعون ليرة كلّ ما يمكنني أن أقدّمه لك، والباقي عليك. فليوفّقك الله في ما تختار القيام به».

الخبرة المهنية قبل «السفير»

أوصله أحد أصدقائه إلى لقاء مصطفى المقدّم، صاحب جريدة «النضال»، التي كانت تصدر عند الظهر. بعد سؤال وجواب، أمسك المقدّم بمقص، وقال لسلمان: هل تعرف ما هذا؟ أجابه: هذا مقص. قال له: هذا رئيس التحرير، ويجب أن تعرف كيف تستخدمه. أي كيف يختار مواضيع وأخباراً من جرائد ثانية، يقصّها ويلصقها. لم يطل وجود سلمان في «جريدة النضال العظيمة»، فقد زاره والده يوماً وخرج لملاقاته والتحدّث معه، وكانت النتيجة أن حرمه المقدّم من الراتب.
مجدداً، عرّفه صديقه بتاجر خُضَر، قدّمه إلى صاحب جريدة «الشرق» خيري الكعكي، حيث عمل ثلاثة أشهر مجاناً، تقاضى بعدها الراتب الأول، وقيمته 10 ليرات أسبوعياً، ثم ارتفع ليصبح 100 ليرة شهرياً. كان ذلك عام 1957 الذي شهد انقساماً سياسياً وتحرّكات واسعة لمعارضي الرئيس كميل شمعون ورئيس الحكومة سامي الصلح. وخلال مهرجان للمعارضة أقيم في منطقة «أرض جلول»، وقعت اشتباكات وسقط عدد من الضحايا، من بينهم سيدة كانت تعمل في منزل صاحب مجلة «الحوادث» سليم اللوزي. تحوّل الأخير إلى المعارضة الشرسة لشمعون، فكان نصيبه كما غيره من المعارضين السجن، حيث تعرّف إلى الرقيب أول ابراهيم سلمان، والد طلال سلمان. وفي أحد الأيام، بينما كان سلمان يزور والده، بادره الأخير بالقول: «بين ضيوفي هنا صحافي كبير ونحن نمضي ساعات كل يوم معاً. تعال أعرّفك إلى سليم اللوزي». وقد قدّمه والده إلى اللوزي قائلاً: «إنه يحاول أن يكون صحافياً!». في الزيارة الثانية، سمع وعداً من اللوزي للوالد «مكان ابنك معي في «الحوادث»». وبالفعل، بعد الإفراج عنه، اتصل اللوزي بسلمان وعرض عليه الانضمام إلى أسرة «الحوادث».

يصف سلمان الانتقال إلى «الحوادث» بـ«النقلة الكبيرة». بدأ عمله في المطبعة، مشرفاً على الإخراج والتنفيذ والتصحيح، وتعلّم صفّ الأحرف وتركيب الصفحات، ثم بات يصحّح، ويعدّ صفحة بريد القراء، كما ابتكر زاوية شخصية له سمّاها «شطحة». وفي هذه المرحلة، زار الشام برفقة اللوزي، حيث التقطت له صورته الشهيرة مع جمال عبد الناصر الذي سأله بعدما عرّف عن نفسه «إزاي شطحاتك؟».

في أواخر 1959، طالب هو وزميله شفيق الحوت بزيادة على الراتب، وكان الصحافي الراحل رياض طه قد عرض عليهما أن يعملا معه في مجلة «الأحد». لبى اللوزي طلب الحوت فقط «فوجدت نفسي محرجاً، لذا وافقت على عرض طه وانتقلت إلى الأحد». تولى هناك منصب مدير تحرير «وصرت المسؤول الأول عن المجلة تقريباً، لأن رياض طه كان منهمكاً في العمل السياسي». في 1961، ألقى الأمن العام القبض على طلال سلمان بسبب علاقة الصداقة التي ربطته بمندوب الثورة الجزائرية في بيروت أحمد الصغير جابر، الذي وجّهت إليه اتهامات بالتجسّس، وسجن نحو 50 يوماً قبل أن يصدر الحكم ببراءته. خلال هذه الفترة، كان طه قد أزال اسم سلمان عن الجريدة. مع ذلك، عاد إلى العمل فيها في انتظار فرصة عمل أخرى.
بعد نحو عام من إطلاق سراحه، تلقى سلمان اتصالاً من أحد زملائه يخبره أن شخصية كويتية في لبنان تبحث عن صحافي يتسلّم مشروع إصدار مجلة في الكويت، وأن هناك من طرح اسمه. تعرّف سلمان إلى عبد العزيز المساعيد، الذي عرض عليه العمل في الكويت فوافق سريعاً. سافر سلمان إلى الكويت، وكان في الرابعة والعشرين، وأشرف على إصدار مجلة من الألف إلى الياء. لكن، مع تخصيص عدد شهر أيار (مايو) من المجلة للاحتفال بعيد العمّال، نقلت إلى سلمان ملاحظات عن «انتمائه الشيوعي»، ما أشعره بأنه لم يعد مرحباً به. زار لبنان في عطلة عيد الأضحى، وعندما التحق مجدداً بعمله، كان اسمه قد نزع عن المجلة، فاتخذ قرار العودة في حزيران 1963. اكتفى لبعض الوقت بالكتابة في جريدة «المحرّر» التي كان يصدرها صديقه هشام أبو ظهر، إلى أن رنّ هاتف البيت مرة وقال له المتصل: «أنا سعيد فريحة، أودّ أن نلتقي ونحكي».

يرجّح سلمان أن يكون أحد الزملاء قد رشّح اسمه أمام فريحة. ذهب للقائه، وبادره فريحة «أريدك مديراً لتحرير مجلة «الصيّاد»». كان العرض ممتازاً «أولاً لأني لا أعمل، وثانياً لأن «الصيّاد» سمعتها جيدة، وثالثاً لأن سعيد فريحة كان ناصرياً حتى العظم». كان العمل منهكاً بعدما ألقيت كلّ الأعباء عليه. وبينما هو في «الصيّاد»، عرض عليه غسان كنفاني أن يعمل في مجلة «الحرية» التابعة لحركة القوميين العرب. قال له غسان: «يريدون خبيراً أجنبياً يفهم في الشؤون اللبنانية». وهكذا صار سلمان «الخبير اللبناني عند القوميين العرب في مجلة الحرية».
في 1967 تزوّج، وكان لا يزال يعمل في «الحرية»، وعرض عليه العمل في جريدة تصدر قرابة العاشرة صباحاً اسمها «اليوم» لصاحبها عفيف الطيبي.«الدوام الصعب، وعدم انتشار الجريدة دفعاني إلى الاستقالة سريعاً». في 1968، تسلّم جان عبيد مسؤولية «الصياد»، وأرسل في طلب سلمان. كان يعرف ماذا يريد من مهنته هذه المرة، اشترط العمل مراسلاً عربياً، وأن لا تكون له أي علاقة بإدارة التحرير. تمت الموافقة لتبدأ «المرحلة الذهبية في حياتي المهنية».

ولادة “السفير”

خلال عمله مراسلاً عربياً، تعرّف طلال سلمان إلى الزعيم الليبي الصاعد معمر القذافي. وفي منتصف 1973، قدم إلى لبنان شخص ليبي اسمه مصطفى بزاما وطلب مقابلة طلال سلمان «أخبرني عن رغبة ليبية في إنشاء جريدة ومجلة ومركز دراسات وأن هناك توصية من القذافي بلقائي أولاً». عقدا جلسات متعدّدة، وتمّ الاتفاق «على أن يقدّم لي المال الذي أحتاج إليه لإنشاء جريدة في صيغة قرض». بعدها، بدأ رحلة التأسيس لجريدته من مصر «زرت محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومجموعة من الكتّاب والفنانين والرسامين أصدقائي، وأخبرتهم عن المشروع وأبدوا استعداداً للمساعدة في حال احتجت إليها». المرحلة الثانية كانت البحث عن امتياز، واستغرقت وقتاً قبل الاستقرار على «السفير» بتشجيع من هيكل. وفي نهايات 1973 استأجر مكتباً صغيراً في سنتر فرح في الحمرا وبدأت الاتصالات لتوظيف فريق العمل.

آن أوان إعداد الماكيت والشعار، وقد توصّل الفريق سريعاً إلى اختيار شعارَيْ «صوت الذين لا صوت لهم»، و«جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان»، لكن بقي «اللوغو». كان سلمان يتواصل دورياً مع أصدقائه في مصر. لكن مع اقتراب موعد الصدور «وصل حلمي التوني فجأة وهو يحمل شعار «السفير» على شكل حمامة، لونها برتقالي. الحمام هو حامل الرسائل، والبرتقال يعني الشام ووفلسطين، كانت فرحتي كبيرة جداً لأنه رفع عن كاهلي همّ الواجهة الأساسية التي ستعبّر عن روح الجريدة».

منذ اليوم الأول فرضت «السفير» نفسها، وقفت مباشرة بعد «النهار»، الجريدة الأعرق في لبنان، متخطّية كل صحف البلد في التوزيع. وبعد عشرة أيام، تلقى سلمان اتصالاً من غسان تويني. قال له مباشرة، ومن دون أن يهنّئه بصدور الجريدة «فينا نتغدى سوا؟»، فأجابه «منتغدى سوا». كانت «السفير» قد حدّدت ثمناً للمبيع قيمته ربع ليرة، كما بقية الجرائد، في حين كانت «النهار» قد رفعت سعرها مطلع شهر آذار إلى نصف ليرة. سأله تويني: بتقديرك، لمَ نجحت السفير؟ فأجابه سلمان: «أنت أستاذنا، وتعرف أكثر مني». قال له تويني: «الربع ليرة». أجابه: «من الممكن أن يكون هناك تأثير للربع، لكن كلّ الجرائد سعرها ربع». كرّر تويني كلامه، إلى أن قال له سلمان: «طيب تهذيباً سأقبلها منك، لكنك تعرف وأنا أعرف أنك تعرف أنه ليس السبب، وأن هناك عملاً متقناً». بالنسبة إلى سلمان، كان هذا اللقاء اعترافاً من تويني بنجاحه.

على مدى 43 عاماً، تجاوزت «السفير» وظيفتها كجريدة تنقل الأخبار، مشكلةً وعي مئات الآلاف من قرّائها ومحبيها. وكما كان لها مريدون، لم يخلُ الأمر من عداوات بلغت حدّ محاولة القتل. يقول الرجل الذي تعرّض لمحاولة اغتيال، وتعرّضت جريدته والمطبعة للتدمير والاستهداف، كما إلى التعطيل «لا أعتقد أن هناك جريدة تلقّت تحيات، سواء كانت ودية، أو على شكل قذائف وقنابل ورصاص بقدر ما تلقّته «السفير»». لم يكن قرار الإقفال سهلاً على طلال سلمان. صحيح أنه لم يندم عليه منذ خمس سنوات إلى اليوم، إلا أنّه احتاج إلى وقت لتقبّله. في الأيام الأخيرة من حياة «السفير»، كان يتأخر فيها حتى ساعات متقدمة من الليل، رغم إنجاز العمل. بعد إقفالها، استمرّ في الحضور إلى مكتبه في المبنى الذي لا يزال يحتضن شعاراً يرى كثيرون أنه بات ينتمي إلى زمن مضى «جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان».

مهى زراقط

الاخبار، 17/12/2022

Exit mobile version