طلال سلمان

طريق بيروت دمشق منتفعون من فتحها واغلاقها مرتين

تستعيد العلاقات اللبنانية ـ السورية بعضاً من سويتها، بعد سنوات من الافتراق إلى حد الاختصام، وسط مناخ ظللته حرب سياسية مفتوحة، تجاوزت حدود العداء الوطني القومي للكيان الإسرائيلي.وها ان الطريق التي تربط بين البلدين الجارين إلى حد التداخل في البشر وفي الأرض، تستعيد بعض حيويتها، بقوة الطبيعة والمصالح والعلاقات العائلية وروابط المصاهرة وتداخل الأنساب.مع ذلك، لا يزال في منزلة »الخبر العاجل« أي اتصال على المستوى الرسمي العالي بين الدولتين، وإن كان بطُل أن يكون خبراً مباغتاً أو مستهجناً أو مثيراً للجدل الداخلي، وإن لم تخمد تماماً أصوات الاعتراض على أي لقاء، ولا توقفت الاستنتاجات المثقلة بالريب والشكوك والمخاوف من المحاسبة بمفعول رجعي، عن وقائع »الحقبة السورية«.ويأتي التواصل على مستوى المؤسسات الرسمية، رئاسة الدولة، وزراء في الحكومة، قيادة الجيش، تأكيداً على نهاية تلك »الحقبة« التي يريد الجميع، وفي العاصمتين، أن يطووا صفحتها ليباشروا علاقات من طبيعة مختلفة اختار لها اللبنانيون عنوان »الاعتراف بالكيان« وتجسيده العملي تبادل السفراء بديلاً من المعاهدات والمواثيق والأعراف والعواطف التي رأت تجسيداً لها ـ ذات يوم ـ في شعار »شعب واحد في دولتين«.لكن »الأمن« هو الباب الفعلي للسياسة في ظل الشكوك والريب من احتمال تجديد »الحقبة السورية« ولو مموهة بالعلاقات الدبلوماسية..ومع أنهم في دمشق قد تجاوزوا تلك »الحقبة« إلى أفق مختلف تماماً، فاستعادوا صداقات وعلاقات كانت متوترة أو مقطوعة مع بعض دول الغرب (الأوروبي خاصة)، فإن بعض أقطاب الطبقة السياسية في لبنان يرفض التسليم بخسارة مراهناته التي تجاوزت حدود المعقول والمقبول وطنياً، ويستمر في المكابرة… أملاً في أن يعثر على بابه الخاص للدخول إلى »الصفقة«، فيحافظ على أرباح »الإخوة« ومكاسب »العداء« ويضيف إليها ما قد يتحقق له في »العهد الجديد«… وها هي الانتخابات الرئاسية الأميركية تنتهي إلى تحول مفصلي في السياسات الدولية، خصوصاً وقد تزامنت نهاية عهد جورج بوش مع انفجار أزمة مالية حادة عصفت مخاطرها وانعكاساتها البعيدة المدى باقتصادات العالم، بشرقه وغربه، والدول الغنية فيه كما بلاد الفقراء المنسيين حتى والنفط يجري تحت أقدامهم..وفي ما يعنينا في المنطقة العربية هي الآثار المباشرة لفوز باراك أوباما ببرنامجه المعلن حول ضرورة انسحاب قوات الاحتلال من العراق، بأسرع وقت ممكن، مع وعيه بأن مثل هذه المهمة تقتضي تبدلاً في السلوك والخطاب مع »الأعظم تأثيراً« بين الدول المجاورة للعراق..أما ما يعنينا في لبنان، مباشرة، فهو ما يتصل بمواقف بعض رموز الطبقة السياسية الذين تصوروا أنهم قد باتوا من ركائز السياسة الأميركية في المنطقة، ووالوها في كل ارتكاباتها الدموية الوحشية التي مزقت وحدة العراق ـ كياناً سياسياً وشعباً عريقاً له إسهامه العظيم في الحضارة الإنسانية، وله دوره المؤثر جداً في المصير العربي ـ … فضلاً عن موالاتها وتأييدها المطلق لإسرائيل وهي تسحق الشعب الفلسطيني سحقاً، وتدمر آماله في دولة له ولو على فضلة من أرضه.يمكن هنا أن نضيف المردود البشع لمواقف هذه الطبقة السياسية، ممثلة بالأعظم تطرفاً من رموزها، من الحرب الإسرائيلية على لبنان، والتي جعلتها تبدو في موقف المدافع عن حرب العدو ضد الوطن وشعبه الذي سطر بصموده ودمائه ومقاومته الباسلة التي ظلت تقاتل حتى لحظة »وقف العمليات الحربية« ببطولة نادرة، صفحة مجيدة في التاريخ العربي.على هذا فليس مستهجناً أن نرى هذه الطبقة السياسية تبادر إلى تأييد »المعاهدة الأمنية« التي فرضها الاحتلال الأميركي على الحكومة العراقية التي تحرسها حرابه، مستظلة بهذا التواطؤ العربي الواسع النطاق لتصوير »المعاهدة« كأنها الباب الإجباري لإخراج الاحتلال من أرض الرافدين..وبديهي ألا تحاسَب بعض رموز الطبقة السياسية في لبنان، وهي فاسدة ومفسدة، بأقسى مما تحاسَب الأنظمة العربية التي تواطأت مع الاحتلال على حاضر شعب العراق ومستقبله..وإنه لمن المضحك المبكي أن ينعقد مجلس وزراء الخارجية العرب في حضن جامعة الدول العربية، فيشهد مشاجرات ومهاترات حول الوضع الفلسطيني تزيده تعقيداً ـ في السياسة ـ في حين أنها لا تخفف ذرة واحدة من أثقال الحصار الإسرائيلي، قاتل الأطفال في غزة، ولا هي تتقدم بالفلسطينيين المنقسمين إلى حد الاحتراب خطوة واحدة نحو المصالحة من أجل استنقاذ البقية الباقية مما كان ذات يوم »القضية المقدسة« لمجموع العرب، ومعهم العديد من شعوب العالم، شرقاً وغرباً.لا تهديد الأمن القومي العربي بالاحتلال الأميركي، منذ اجتياحه العراق. .. ولا الخطر المصيري المحدق بفلسطين، أرضاً وشعباً وقضية، تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي الذي كان مدعوماً بالرعاية الأميركية المفتوحة التي وصلت إلى حد اعتبار فلسطين »دولة اليهود« على لسان الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جورج بوش،ولا مخاطر الفتنة التي تتبدى في أشكال مختلفة عبر الممارسات غير المسؤولة لبعض رموز الطبقة السياسية في لبنان والتي بلغت حد المناداة بالتقسيم وتوزع اللبنانيين على فدراليات الطوائف، مما يفتح الباب لحرب أهلية مديدة تستدرج تدخلات الخارج،لا شيء من هذا كله أثار حمية الطبقة السياسية في لبنان وأشعرها بالمخاطر التي تتهدد هذا الوطن الصغير، كما تتهدد منطقته التي تبدو أغلبية قياداتها في صورة المتواطئ أو المتجاهل أو الغائب عن الوعي..لكن مجرد فتح الطريق بين بيروت ودمشق (وهي لا تتجاوز المئة كلم) جعلها تستنفر وتستعيد خطاب الحرب الأهلية… مع وعيها أن المسؤولين الذين زاروا دمشق، حتى اللحظة، أو الذين سيزورونها لم يكونوا يوماً من أركان »الحقبة السورية« كما كان السادة أركان هذه الطبقة السياسية، فلا هم زايدوا إلى حد المناداة بإلغاء الحدود، ولا هم فرطوا »بالسيادة« إلى حد استشارة من كان بيدهم الأمر في أدق الشؤون المدرة للثروات، فضلاً عن الأمور الشخصية والحميمة جداً!![ [ [ما تزال منطقتنا في مهب الريح، وما زال الخطر يحدق بهذا الوطن الصغير.فلا الاحتلال الأميركي رحل عن العراق، بل إن »المعاهدة« تشكل تهديداً للأمن العربي عموماً، ولأمن دول جوار العراق جميعاً.. ولبنان منها.وبرغم الادعاءات الأميركية التي روّجت لها قيادات عربية في مواقع مسؤولة، فإن المرجعيات الدينية ذات الوزن في العراق لم تظهر أي تأييد للمعاهدة، بل هي استنفرت العراقيين للتصويت ضدها، إذا كان لا بد من إضفاء مظهر ديموقراطي على معاهدة الذل هذه.بل إن بعض ما صدر عن الرئيس الأميركي المنتخب يقتضي المزيد من التحفظ، فهو كتب في مقال له في مجلة »فورين افيرز« ما ترجمته: »بعد العراق قد يغرينا التفرغ للداخل، وهذا خطأ فاللحظة الأميركية لم تنته، بل هي بحاجة إلى تجديد«…. أما نحن في لبنان فإن الاهتمام بالداخل يقتضي منا النظر إلى ما حولنا، واستعادة الوعي بأن ما يجري للعراق وفيه، ولفلسطين وفيها سيؤثر في أحوالنا.والأخطر أن نستعيد الوعي بخطورة العلاقات اللبنانية ـ السورية، وبضرورة أن تعود »طبيعية« أي علاقات إخوة يحكمها إطار من الاحترام والود والمصالح المشتركة، عبر »سفارتين« ستظلان أعجز من أن تجسدا هذه العلاقات المتشابكة، لا سيما في ظل مراهنات سياسية خاطئة ومضللة ومسيئة إلى الشعبين الشقيقين، بروابطهما المتشابكة والتي تصنع ـ مع الجغرافيا ـ تاريخهما المشترك.وطريق بيروت ـ دمشق يجب أن تكون سالكة على الخطين، وستكون، لأن ذلك حتمي، بقوة الحياة، وبغض النظر عن طبيعة النظام وأشخاص الحكام.ومن يعيد العلاقات بين البلدين الشقيقين إلى طبيعتها، هو من سيذكره التاريخ باحترام، وهو من سيفوز بثقة شعبه وليس أولئك الذين انتفعوا بثلاثين سنة من المغانم ثم انتفعوا بثلاث سنوات من الخصومة، ولعلهم يرفعون أصواتهم الآن بالاعتراض ليكونوا بين أصحاب الحظوظ في مغانم التلاقي الجديد… والأكيد!

Exit mobile version