طلال سلمان

طرائف لبنانية وعجائب عربية

يستمتع اللبنانيون بتعذيب الذات عبر استعراض يومي للأسباب التي تمنع قيام »الدولة« في وطنهم الصغير، والتي تحوِّل سلطاتهم الرسمية إلى ائتلاف طوائفي هش وعاجز بالتالي عن الإنجاز.
كل قرار، وأي قرار في أي مسألة محلية يحتاج إلى توافق دولي يستدرج توافقاً عربياً، مما ييسر أمر التوافق المحلي، فإذا بمجلس الوزراء يتخذ قرارات متناقضة أو غامضة أو مبتورة وبالتالي فهي قابلة للنقض، أو مؤهلة للحفظ.
الكل يتصرف وكأن وجوده في السلطة مؤقت، وأن ما يقرر صباحاً سينقض مساء، وأن التوازن الطوائفي مانع ممتاز للقرار، وأن عدم اتخاذ قرار هو القرار الأفضل!
وإذ ينتبه اللبنانيون إلى أن مؤسساتهم العامة التي يفترض أن تكون مرجعياتهم في مختلف الشؤون »خاوية على عروشها« فإنهم يهربون إلى التنكيت والتشنيع والتسرية عن النفس بتعداد المواقع الشاغرة في القضاء والإدارة ومواقع القرار، ثم يكتفون باتهام الطبقة السياسية بتقصد تفريغ »الدولة« لتعذر التقاسم »العادل« طائفياً ومذهبياً. والشغور، على أي حال، يتجاوز الطوائف والمذاهب، وهو بالتالي ملجأ أمين!
ومع توالي التصريحات مفجرة الحساسيات والغرائز، فإن اللبنانيين يتخذون مواقع »اللجنة الفاحصة« وتوزيع الشهادت على السياسيين المحترفين الذين يعرفون كيف يتعاملون مع رعاياهم: هذا ظريف! وهذا شاطر ملعون! وهذا غبي لكنه مهضوم! وذاك لئيم لكنه يعبّر عن »جمهوره«.
أما هم فيتصرفون وكأنهم خارج هذه اللعبة تماماً، وإن كانوا بالضرورة ضحاياها: لن تجري الانتخابات، قطعاً، أليس كذلك؟! وافرض أنها قد جرت فماذا سوف يتغير؟! لن يتغير شيء، قد تنقلب الأكثرية القليلة إلى قلة أكثرية، ويستمر التعطيل! مع ذلك لا بد من الانتخابات التي قد تحقق عدالة في التمثيل المسيحي ولو عبر استقدام الناخبين ـ وبالآلاف ـ من المهاجر والمغتربات بطائرات خاصة؟! وماذا يهم؟! إن كلفة استقدام بضعة آلاف منهم لتعديل الميزان لن تكلف أكثر من بضع حقائب إضافية من هذه التي توزع الآن على »الأقطاب« من السياسيين!
.. وها أن المسؤولين في دول الخليج يطيرون إلى نيويورك ليلبوا النداء عجالى، في حين أنهم في اجتماعهم أمس الأول في البحرين قد رفضوا الطلب الأميركي، بلسان وزير الدفاع، بتنسيب العراق إلى مجلس تعاونهم بذريعة أن هذا المجلس لم يتكامل بعد!!
أما في ما خص »النزاع« الفلسطيني ـ الإسرائيلي فإنه يحتاج جهداً دولياً عظيماً لإعادة تحديد بديهياته التي أضاعتها المبالغة في الاهتمام: من خريطة الطريق إلى الرباعية، ومن أنابوليس إلى المفاوضات المباشرة في ضيافة الإسرائيلي إلخ…
هذا بينما يتعمق الشرخ بين »السلطتين« الفلسطينيتين، ولا يمنع الاشتباك المسلح بينهما إلا الفاصل الجغرافي، وبينما يمتد الخلاف إلى كل ما يشكل من فلسطين »القضية«: المرجعية العليا الموحدة للعمل الوطني الفلسطيني، منظمة التحرير، السلطة وشرعيتها، مشروع »الدولة« وأسانيدها القانونية والعملية (مع الاحترام لمن عيّنه أصحابه رئيساً لدولة ربما ستقوم ذات يوم!)…
بديهي والحال هذه أن تتنصل المرشحة لرئاسة الحكومة الإسرائيلية من كل ما دار في المفاوضات التي لم تتوقف يومياً (لأن المطلوب منها استمرارها وليس تحقيق النتائج…) وتستقوي بما أقر في مؤتمر أنابوليس ـ وبحضور العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً ـ من أن إسرائيل دولة لليهود، فتقول بضرورة إخراج من تبقى من الفلسطينيين فيها ودفعهم إلى الأراضي الفلسطينية خارج (حدودها؟!) والتي لا كيان سياسياً لها والمتروكة لوحوش المستعمرين المستقدمين من أربع رياح الأرض لكي يصيروا ـ بسلاح القتل ـ أصحاب الأرض!
وأما في العراق الذي شهدنا في عاصمته ليل أمس »وداعاً لائقاً« لرئيس الإدارة الأميركية التي اتخذت القرار باحتلاله، فقد أفسد ذلك الصحافي الشاب منتظر الزيدي زيارة الاحتفال بالنصر التي أراد جورج بوش أن يختتم بها ولايته، وفي البلاد العظيمة بشعبها وتاريخها العريق… وستبقى صورة بوش ينحني ليتفادى الحذاء العراقي أفضل تلخيص لحقبته وإنجازاتها الباهرة!
لقد لخص منتظر الزيدي موقف شعب العراق من الاحتلال الأميركي، ولسوف يتوقف الأميركيون طويلاً أمام هذه »الصورة الخالدة« التي قالت ما يمكن اعتباره رأي العراقيين في »الإنجاز التاريخي« ممثلاً »بالمعاهدة الأمنية« التي أراد الاحتلال فرضها عليهم، متكئاً على مجموعة المفرطين من العجزة والانتهازيين وطلاب السلطة الذين ارتضوا أن يحكموا من فوق مدافع الاحتلال…
ليس »أفصح« من هذا الحذاء العراقي في التعبير عن رأي شعب العراق في سياسة جورج بوش، وفي فضح المتواطئين معها على العراقيين ووحدة كيانهم السياسي، لأية »قومية« انتموا، وبغض النظر عن أديانهم وطوائفهم التي لم تمنع عبر التاريخ الحديث وحدة دولتهم.
لقد أسقط حذاء منتظر الزيدي كل الادعاءات الأميركية من أن »الانتداب« على العراق من أجل تمدينه ليس استعماراً، وأنها ستنهي هذا الانتداب بعد ثلاث سنوات لا أكثر، أي بعد ثماني سنوات فقط من القتل والتهجير والفتن الطائفية والتفتيت المنهجي لكيانه السياسي ووحدة شعبه.
[ [ [
لماذا يُستدعى المسؤولون الخليجيون إلى نيويورك، لاجتماع طارئ من أجل البحث في أمن »الخليج«؟! هل لأن الغرض من هذا الاجتماع سيكون أسود كالحاً ويحتاج إلى كوفية بيضاء، تشابه رايات الاستسلام لتبرير انعقاده؟!
ثم ماذا يمكن توقعه من لقاء دولي جديد في مجلس الأمن حول قضية فلسطين، وكل ما اتخذ حول تفاصيلها منذ دهور وحتى اليوم لم ينفذ منه حرف واحد؟! وكلما تبدت استحالة تنفيذ قرار يعطي الفلسطينيين الحد الأدنى من الأدنى من حقوقهم (على الورق) يستصدر قرار جديد حتى ليبدو وكأن القرارات الدولية هي أفضل علاج لقضية فلسطين: إذ هي تنهيها على مهل، وتحولها ـ أو هي قد حولتها فعلاً ـ من قضية إلى مشكلة، ومن حقوق شعب في وطنه إلى مسألة رعاية اجتماعية لأشتات من البشر كانت لهم هوية جامعة ففقدوها أو أنهم حوربوا في مستقبلهم حتى كادوا ينسون ماضيهم ليظلوا على قيد الحياة في الحاضر…

… خصوصاً أن الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية تغري معظم الحكام العرب بالتنصل من أعباء هذه »القضية« التي يصعب طمسها، ويستحيل التبرؤ منها وغسل اليدين من دماء أهلها، فلا يتبقى إلا اللجوء إلى الزمن لعلها »تشيخ« كما كان يقول أحد مؤسسي إسرائيل، دافيد بن غوريون، فتموت!
على أن هذه الخلافات داخل البيت الفلسطيني، وهي جسيمة ومتعددة الأسباب، لا يجب أن تنسينا أن الدول العربية جميعاً قد كشفت عجزها الفاضح ليس عن حل »القضية«، بل عن إيصال شحنات من الغذاء والدواء وما يبقي أهل غزة على قيد الحياة، في انتظار التوافق المستحيل بين القيادتين الفلسطينيتين المتواجهتين، في السياسة، واللتين تتحملان مسؤولية مباشرة عما أصاب ويصيب قضيتهم من تشويه، فضلاً عما يعانيه شعب فلسطين من صنوف القهر والعذاب… والتجويع وافتقاد مقومات حياة الفقراء المعدمين!
… هل يمكن أن ننسى أو نتناسى في هذه اللحظة أن دول النفط والغاز العربية قد خسرت مباشرة، وخسر حكامها والنافذون من المقربين منهم، والسماسرة المحترفين أو الهواة والمضاربين من أبنائها، مليارات المليارات من الدولارات في الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الأميركي ودفعت بالعديد من شركات الإنتاج العملاقة وكبريات المؤسسات المالية والمصارف ذات النفوذ إلى هاوية الإفلاس؟!
وفي حين وقف كبار الرؤساء في العالم أمام شعوبهم يعترفون بالتقصير ويتعهدون بعلاج الأزمة الخطيرة، فإن أحداً من هؤلاء »الخاسرين الكبار« في الوطن العربي، لم يكلف خاطره توجيه كلمة إلى »رعاياه« يعتذر فيها عن تسببه في إفقارهم، أو يتعهد بإصلاح لنظامه بحيث لا يقوده التفرد أو التبعية إلى كارثة أخرى يدفع أعباءها العرب جميعاً، وليس شعبه فحسب؟!
لا مساءلة، لا محاسبة، لا مراجعة… كيف تريدون من »السياسيين الصغار« أن يحترموا رعاياهم الذين يقودونهم من غرائزهم؟!
شكراً لمنتظر الزيدي الذي قال ـ بحذائه ـ ما لا يجرؤ على التفكير فيه كل أولئك الذين تسببوا في ضياع أغنى وأقوى دولة عربية وما زالوا يضيّعون بلادهم من دون خوف من أن يحاسبهم أحد!!

Exit mobile version