طلال سلمان

صياغة مارونية جديدة لنظام لبنان ما بعد طائف

مع أن أحداً في لبنان لم يرفع، بعد، شعار »لبنان أولاً، اقتداء بما فعله الكيانيون الجدد في العديد من الأقطار العربية، بدءاً بالأردن مروراً بأقطار الجزيرة والخليج وانتهاء بمصر، فإن طوفاناً من الكلام يجتاح الآن المنتديات و»أوساط النخبة« فضلاً عن أهل السياسة والمراجع الدينية مركزاً على الأوضاع الداخلية بتفاصيلها المملة متخلياً عن »الدور العربي« للبنان، والذي بات مقتصراً، بعد دهور الحرب الأهلية، على المشاركة الوجدانية، كتابة أو تصريحاً، في المستجد من سيل المآسي العربية بدءاً بفلسطين وانتهاءً بالعراق.
وإذا ما استثنينا فيضان التصريحات والتعليقات اليومية المتصلة بمعركة الرئاسة الأولى، والتي تفاضل بين التمديد والتجديد أو انتخاب رئيس جديد، لوجدنا أن ثمة عدداً من البيانات المواقف قد صدرت مؤخراً متجاوزة الجدل المفتوح حول الرئاسيات لتتصدى إلى النظام الذي أقامه اتفاق الطائف بدستوره وأنظمته ومؤسساته في ضوء الممارسات الفعلية لأهل هذا النظام و»لراعيه« السوري على وجه التحديد.
وإذا كان البيان الأخير لقرنة شهوان أقرب إلى النص السياسي المباشر بمواقف لا تتضمن جديداً في ما عدا الانتقال من التلميح إلى التصريح، فإن »إعلان بيروت« تصدى لرسم »خط جامع« لقوى الاعتراض على النظام بصيغته »السورية« المعتمدة، في حين أن »خيارات للبنان« يشكل بحق مراجعة نقدية شاملة لهذا النظام، بوجوهه الدستورية والسياسية والإدارية والقضائية كافة، ليحاول الوصول إلى مكمن الخلل وهل هو في »جوهر« اتفاق الطائف أم في تطبيقاته.
على أن »مانيفستو التغيير« هو، بلا شك، النص السياسي للمجمع البطريركي الماروني، الذي نشرت »السفير« (يومي الجمعة والسبت الماضيين) مسودته التي يفترض أنها مطروحة للنقاش العلني العام، بعد تجميع مائة ألف مداخلة حوله من لبنان ودول الانتشار الماروني.
ذلك أن هذا النص يعيد قراءة »الموارنة« باعتبارهم الطرف المؤسس للكيان و»السياسة« في تحولاتها كما تتبدى من خلال »النظام« الذي أقرت صياغته الأولى مع إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، ثم تمّ تثبيته بالميثاق الوطني مع إعلان استقلال الدولة في العام 1943، ثم تعرض لارتجاجات عنيفة في الستينات، إلى أن تم تعطيله مع تفجر الاشتباكات بين جيش النظام والمنظمات الفلسطينية المسلحة عام 1973، بكل الانحيازات السياسية التي »شرخت« المجتمع ومهّدت لمسلسل الحروب الأهلية الدولية التي امتدت حتى ما بعد اتفاق الطائف (1989) والتي كانت ذروتها حالات الاقتتال داخل الصف الواحد، ولا سيما داخل الصف المسيحي (القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع والجيش بقيادة ميشال عون)، والتي مكّنت من تعديل جوهري لنص الطائف بالممارسة السورية على الأرض، بعد غزو صدام حسين العراق والحرب الدولية التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية لإخراجه منها.
هذا »المانيفستو« المطروح للنقاش يشكل إعادة نظر شاملة في الممارسات السياسية المختلفة، »انطلاقاً من أن تجربة الموارنة في السياسة هي الأقدم والأكثر تنوعاً بين مسيحيي الشرق«، كما أن »الشأن السياسي تعددي في أبعاده، خلافي في مضامينه، حاد في انقساماته«، ولأن لبنان، الدولة والوطن والكيان مرتبط ارتباطاً عضوياً وثيقاً بالموارنة، ولأن دور الكنيسة المارونية وبطريركها كان الأكثر تأثيراً في الحياة السياسية في لبنان منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم«.
* * *
إن هذا »المانيفستو« الذي قد يرى فيه واضعوه محاولة لإعادة تأسيس للعلاقة بين المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً وبين »النظام السياسي« في لبنان، يطرح كل القضايا الخلافية في لبنان، سواء ذات العمق التاريخي، (الموقف من الكيان) أو المتصلة بالمسائل الراهنة (النظام وتطبيقاته)، خصوصاً ان أهل النظام كلهم يشهرون به ويختلفون إلى حد التصادم على »الصلاحيات« بكل ما تنفثه من مناخات طائفية تعيد استيلاد الانقسام وتكاد تحوّله إلى »قطيعة«.
كذلك فإن هذا »المانيفستو« يعيد طرح العلاقة مع »العروبة«، وهي الفكرة التي أطلقها منظرون ومجتهدون مسيحيون عموماً وموارنة بشكل خاص، واستجاب لها »العرب« ورأوا فيها تحرراً من »العثمانية« ومن مبدأ دولة الخلافة (أي الدولة الإسلامية) ومشروع خروج إلى رحاب »الدولة العلمانية«، دولة كل مواطنيها، على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم.
ويتساءل مشروع البيان: »ما معنى ان يكون لبنان عربياً في وقت بلغت فيه العروبة درجات عليا من التفتت والخلاف«؟!
وبالطبع فإن مثل هذا الحكم (السياسي) المتسرّع على العروبة، كفكرة أو عقيدة، يأتي ثمرة طبيعية لسقوط النظام العربي (العراق مثلاً) بكل شعاراته العروبية التي ثبت أنها كانت »واجهة« في حين أن الممارسات كانت نقيضاً على طول الخط لما قامت عليه الفكرة التي باتت »عقيدة« ثم سحقها الطامحون إلى السلطة بالدبابات.
وبديهي ان تركز وثيقة المجمع البطريركي على اتفاق الطائف وتطبيقاته، وان ترى ان »الهوة تتسع بين مشروع دولة ما بعد الحرب وواقع تفككها المتزايد، بين مشروع الدولة الواحدة الموحدة والمجتمع المنقسم على ذاته«… وان ترى أيضاً ان »سلسلة محاولات قد جرت لإفراغ اتفاق الطائف من مضمونه، وإفراغ الدولة من قرارها وإفراغ الحياة السياسية من السياسة«.
ومعروف ان الجدل حول اتفاق الطائف وتطبيقاته لم يتوقف يوماً، لكن في البيان ما يوحي بخطوة تتجاوز الجدل إلى تحديد موقف قاطع…
وهنا يسجل البيان تمايزاً جوهرياً بين الهموم المسيحية والهموم الإسلامية يمكن ان تزيد الافتراق في النظرة إلى افتراق في المفهوم: »إلا ان للهموم المسيحية وليس فقط المارونية خصوصية معينة، بينما الهموم الإسلامية مطلبية في مضامينها وتوجهاتها فإن الهموم المسيحية المتصلة بالشأن السياسي وجودية تشير إلى أهميتها: الحرية وتحديداً في الممارسة السياسية، السيادة الوطنية، أسس العيش المشترك ومضامينه وطبيعة العلاقة مع سوريا صاحبة القرار الحاسم في السياسة اللبنانية الداخلية والخارجية منذ انتهاء الحرب إلى اليوم«.
ولتوكيد المعنى المقصود يستعيد البيان بعض ما تضمنته المذكرة التي قدمها البطريرك الماروني والمطارنة إلى رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري في 6 آذار 1998، وينقل جزءاً كبيراً منها وهي تشدد على كون المشكلة السياسية القائمة هي أساس كل المشاكل والأزمات التي تعاني منها« وتؤكد على »ان المسيحيين عامة والموارنة خاصة لا يقبلون بعد اليوم بالوضع الراهن الذي يغيِّب دورهم ودور مرجعيتهم«.
أما في موضوع العلاقات مع سوريا فيسترجع البيان معظم المطالب والطروحات المسيحية« التي لم يتخل عنها أصحابها بغض النظر عن مدى ملاءمتها مع الحالة السياسية السائدة، وهكذا يستعاد الحديث عن ضرورة قيام علاقات دبلوماسية طبيعية مع سوريا، »أقرب الدول إلى لبنان بفعل الروابط التاريخية والجغرافية«، مؤكداً على ان العلاقات بين الدول لا تبنى على الشعارات »فلا مسار ولا مصيراً واحداً بين الشعوب والدول بل تعاون صادق وفاعل في مجالات متعددة لمصلحة الطرفين«.
ويخلص البيان إلى تحديد قاطع لدور الكنيسة: »فالكنيسة مسؤولة عن رسم الخطوط العريضة للنهج الماروني في السياسة والشأن العام، وهي وحدها كفيلة في ان تدعو الموارنة أينما وجدوا إلى الالتزام بقيم ومبادئ مثل الاستقامة في العمل السياسي والنزاهة والأخلاق في التكرس للشأن العام والدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية واحترام التعددية في المجتمع الذي يعيشون فيه«.
* * *
ان مسودة البيان، الذي يفترض ان يقر بصيغته النهائية في النصف الثاني من تشرين الأول المقبل، تكتسب أهمية استثنائية في هذه اللحظة السياسية التي يمر بها لبنان، وسط حالات من الانهيار والتباعد والتفكك التي تسود المنطقة العربية، فتكاد فلسطين تُخرج من السياسة، بينما الكيان العراقي موضع نقاش، وبينما العرب يعانون من حالة انعدام ثقة بالنفس وهوان أمام الخارج…
لكأنها تتجاوز إعادة النظر من النظام، والمطالبة بتعديل الحصص، إلى المطالبة باستعادة ما كان قبل الطائف: فالميثاق الوطني أفضل من اتفاق الطائف، ورجالاته كانوا ممثلين أكثر شرعية من أهل الطائف، ودولته كانت أكثر سلامة بما لا يقاس من دولة الطائف في مؤسساتها العسكرية والإدارية والقضائية (على وجه الخصوص) وبالتالي فما نحن فيه يشكل تراجعاً عما كان عليه لبنان (خصوصاً انه، قبل الحرب كان ينعم بالحريات ودولة القانون).
ثم، ان القول بالتمايز بين الهموم المسيحية (وهي وجودية) والهموم الإسلامية (وهي مطلبية) من شأنه ايجاد شرخ سياسي في النظرة إلى النظام المطلوب، خصوصاً وقد كان بين مبررات الحرب ان المسلمين كانوا يعلنون انهم لا يرون في ذلك النظام ما يحقق مطامحهم إلى المشاركة كمكون أساسي وثابت للبلاد، أي ان همومهم آنذاك كانت (وجودية) بدورها…
طبعاً يحتاج البيان إلى قراءة متأنية، وإلى نقاش مستفيض، خصوصاً انه تناول الجوهر والشكل، وتناول التاريخ والكيان ومواقع الطوائف منه وفيه، مشيراً إلى ما يفترض ان يكون مطلب المستقبل.
على ان البيان جاء صريحاً بما يليق بمن يريد ان يصل بالحوار بين الاطراف السياسية المعنية في البلد الواحد إلى نهاية يتفقون عليها فعلياً، ومرة وإلى الأبد، لا ان يجيء التوافق استثنائياً وعارضاً ونتيجة ظروف طارئة تبدى فيها بعضهم في موقع المنتصر بقوة الغير وبعضهم مهزوماً بسبب من تخلي الغير.
ولعل أهل النخبة، والسياسيين من أصحاب الدور والرأي، يتصدون لمناقشة جدية ومسؤولة لهذه الوثيقة التي قد تشكل نقطة تحول في مسار لبنان السياسي، وقد تحدد بعض ملامح نظامه المستقبلي.

Exit mobile version