من حسن الفطن أن يقرأ اللبنانيون سياسة الإدارة الأميركية حيال مستقبل العراق تحت احتلالها على أنها تعنينا هنا، إن لم يكن في يومنا مباشرة ففي غدنا القريب.
ويمكن الاستنتاج، باختصار، أن الإدارة الأميركية قد أسقطت بعض ثوابت سياستها السابقة حول ضمان الاستقرار في هذه المنطقة وباشرت سياسة مناقضة تماماً قوامها استثمار عدم الاستقرار، أو الفوضى البناءة لتثبيت هيمنتها، ودائماً بالشراكة مع إسرائيل.
ففي خلال الأسبوعين الأخيرين ناقش الكونغرس الأميركي مستقبل العراق تحت الاحتلال، علناً ومن دون أن يحسب حساباً لا للعراقيين ولا للعرب ولا لسائر دول العالم، سواء منها المعترض على الاحتلال لأسباب مبدئية أو الموافق بالاضطرار وبعجزه عن رفض الأمر الواقع.
التوصيات التي انتهى إليها الكونغرس وأذاعها علناً تقول بتقسيم العراق إلى ثلاثة كانتونات على قاعدتين: عرقية في الشمال، ومذهبية في الوسط والجنوب.
هكذا ببساطة قرّر الكونغرس الأميركي أن العراق ليس دولة موحدة وأن شعبه ليس شعباً واحداً، بل مجموعة من العناصر والطوائف والمذاهب المصطرعة دائماً!
ولكي يدعم قراره السياسي بالقوة الاقتصادية اللازمة فقد وجّه المجلس النيابي العراقي لإعداد قانون بتوزيع الثروة النفطية على القاعدة ذاتها، بحيث ينال كل كانتون حصته التي تكفل له أن يعيش مستقلاً عن الأخوين العدوين في الكانتونين الدولتين..
وبالتأكيد فإن الإدارة الأميركية تستند في تنفيذ قرارها هذا إلى ما خلقته أو رعته أو عززته من اتجاهات انفصالية بلغت في خطورتها الميدانية حدود الفتنة المدمرة في الوسط والجنوب والغرب، بينما نأى الأكراد باستقلال شمالهم مع إصرارهم على ربط نزاع مع حكومة بغداد من جهة، ومع التركمان (ومن خلفهم تركيا) من جهة أخرى.
[ [ [
لماذا استحضار العراق تحت الاحتلال الأميركي في هذه اللحظة السياسية الدقيقة لبنانياً؟!
لأن التقسيميين في لبنان، قد استمدوا شجاعة طارئة من الطروحات الأميركية للعراق تحت احتلالهم، ومن الغياب العربي الذي كاد يتحوّل إلى مشاركة عملية في توسيع دائرة الحريق بالفتنة، تحت ضغط التخويف بالخطر الإيراني.
وهكذا عاد هؤلاء التقسيميون يجهرون بمشروعهم القديم المجدد: إن لم يهيمنوا على الدولة جميعاً، بالرئاسة فيها والحكومة والمؤسسات، وبقوة الأمر الواقع وليس بالدستور والقوانين ومرتكزات الوحدة الوطنية التي تحمي الكيان وتبقيه، فليأخذوا منها ما استطاعوا وليتركوا الآخرين يصطرعون على ما تبقى..
إن التقسيميين يتسلحون بأكثرية ليست لهم، بل إن أكثرية هذه الأكثرية وحدوية، وذات مصلحة بالدولة ووحدة مؤسساتها، وبالتالي فهي ضد مشروعهم سواء اتخذ شكل الكانتونات أو استدراج المعارضة إلى فتنة مدبرة الهدف منها اضطرارها إلى المواجهة بما يخدم المشروع الأميركي المعزز الآن بخبرته في العراق التي جاءت بالعرب إلى حظيرته طائعين ومسلّمين بالقدر الإسرائيلي… وهكذا تعاد صياغة النظام اللبناني بما يتلاءم مع العصر!
ويمكن القول باختصار إن الأكثرية، بقيادتها الأصلية، وهي وحدوية بطبيعتها كما بمصالحها، هي المعنية بمواجهة التقسيميين الذين باشروا مقاومتهم الفعلية لكل تسوية وفاقية محتملة بل وممكنة يمكن أن تنجب العهد الجديد.
مع التذكير أن معركة الرئاسة تشمل بالتأكيد الحكومة الأولى التي سوف تكون أو يجب أن تكون عنوان دولة الوحدة ومنهجها لتجاوز خطر التقسيميين الذين يرون في حالة الضعف العربي الراهن الفرصة الذهبية التي لا يجوز أن يضيّعوها.
والامتحان الفعلي للأكثرية هو في تحرّرها من محاولات الهيمنة على قرارها التي يبذلها التقسيميون، مع الإيحاء بأن مشروعهم يحظى بالرضا الأميركي… بشهادة ممهورة بدماء العراقيين وتوصيات الكونغرس بعد مناقشاته الخارجة بفجاجتها على المألوف.
[ [ [
أما وقد استذكرنا العرب ، فمن الطبيعي أن نستعيد طيف جمال عبد الناصر، الذي فقده العرب في مثل هذا اليوم قبل سبع وثلاثين سنة، ولم يعوّضوا غيابه باجتماعهم وتوحيد موقفهم حتى لا يخسروا ما تبقى لهم..
ومن أسف فإنهم يتبرعون لأعدائهم طوعاً بما لم يخسروه حرباً.
لجمال عبد الناصر التحية، الذي نفتقده كل يوم، وفي أربع رياح الأرض العربية.