طلال سلمان

صورة فلسطين

أمس، وخلال لحظات، استعادت ذاكرتنا المكدودة والمثقلة بالهزائم ومرارات الخيبة والعلامات الفارقة للأنبياء الكذبة، صورة »البطل« بملامحه الأصلية: بسيط مثل أي إنسان من أبناء هذه الأرض، أسمر مثل تراب فلسطين، أشعث الشعر كزيتونة منع أصحابها من تشذيبها، لامع العينين بالتصميم على مواجهة غير متكافئة إلا بالإرادة، قوي النبرة بصدقه، حاضر الذهن كمحارب حقيقي لا يملك من السلاح إلا إيمانه بحقه.
وحين رفع يديه المقيدتين بالسلاسل، فوق رؤوس جلاديه المرتبكين، ثم حين رفع صوته بالكلمات التي هجرها ولم يعد يحب أن يسمعها سلاطين زمن الهزيمة، امتد ظل الرجل القصير القامة بطول الوطن العربي وعرضه.
كان أعظمنا حرية، مروان البرغوثي، والسجانون يحيطون به من كل جانب، داخل القاعة المقفلة على فلسطين الأسيرة.
المواجهة هي المواجهة، سواء أكان »البطل« معزولاً في قوقعة صمت الزنزانة أم تطارده حوامات الاغتيال، وكلما اشتبهت في وجوده دمرت البيت على رؤوس الأطفال حتى لا يتابعوا طريقه، أو تحاصره الدبابات حتى إذا جاءها »المقنعون« بالبلاغ دكوا المخيم كله على ساكنيه، لا فرق بين امرأة وشيخ، ولا بين حامل وطبيب، بين طالب وعجوز مصابة بالشلل.
أمس، تجمعت في وجه مروان البرغوثي ملامح فلسطين كلها، الصامدة برغم جراحها النازفة، الرافضة الاستسلام برغم الاجتياح المفتوح الذي استباح مدنها وقراها، سهولها وجبالها، شمسها وقمرها، زيتونها ونخيلها، وصور الزفاف المنقوشة بحبات القلوب على الجدران التي تحفظ أنفاس الأجداد.
أمس، جاءتنا فلسطين الى بيوتنا جميعاً، بالصوت والصورة.
قالت لنا فلسطين: إن البطولة لا تحتاج الى رجال أسطوريين، حجماً وضخامة صوت، يكرزون محفوظاتهم من الجمل الثورية، بل هي تحتاج ببساطة الى مثل هذا التطابق الصلب بين الكلمة والمسلك، مثل هذا الصدق الذي يعيد الى القضية الكثير من وهجها الذي ذهبت به الادعاءات والمزايدات التي سرعان ما تتهاوى الى مناقصات وتنازلات تكاد تذهب بما تبقى من الأرض وناسها.
لم يقل مروان البرغوثي انه سيدمر إسرائيل. ولم يقل انه سيرمي اليهود في البحر.
قال إن الفلسطينيين ملح الأرض، وإنهم باقون.. وإنهم سيواصلون نضالهم حتى تقوم دولتهم، الى جانب »الدولة« الأخرى، الجبارة في قوتها وقدراتها والعاجزة عن إلغاء شعب بكامله وحقوقه في أرضه وقضيته التي لا تهرم ولا تشيخ ولا يعرف الموت إليها الطريق.
مروان البرغوثي: لقد أحرجتنا، أمس، ولعلك خربت بعض ما يرتبون بين واشنطن وتل أبيب وفرسان التواطؤ العربي، ومن ضمنه الذين استغنوا بالسلطة عن الوطن.
مروان البرغوثي: لقد أزعجتنا وأنت طليق بما فيه الكفاية، فعد الى زنزانتك ودعنا نكمل طريقنا في اتجاه »رؤيا« جورج بوش، ولا ترجع إلينا إلا بعد ثلاث سنوات، هي المدة التي حددها لانتقال »الرؤيا« من رأسه الى الأرض.
مروان البرغوثي: لا يحب العرب من الأبطال إلا الشهداء والموتى… فمت لكي نعيّنك بطلاً، ونمنحك من الأوسمة أطناناً ومن الشهادات في شجاعتك وشهامتك ووطنيتك ما يملأ جدران رام الله جميعاً، مثلما فعلنا مع مخيم جنين!
مروان البرغوثي: لقد حبستنا في زنزانتك بقدر ما أثبت أنك الأكثر حرية منا جميعاً…
تحية إليك أيها الرجل الضئيل القامة الذي أثبت مرة أخرى أن البطولة هي الموقف!

Exit mobile version