طلال سلمان

صورة تحكي عن عطلة في طنجة

أفرغت المظروف الأصفر على سطح مكتبي. خرجت منه صور لمناسبات متفرقة. واحدة من الصور نجحت في لفت انتباهي. بدت لي أنها تتعمد أن تتباهى على رفاقها من الصور بنجاحها رغم عيب فيها أو ربما لعيب فيها. أما العيب فكان “البهتان” الذي أصاب ألوانها. بهتان حفزها لتكون الأولى  لتقع عيناي عليها قبل أن تقعا على غيرها من الصور خلال هذه المساحة من الوقت التي قد تكون ضيقة وفي ظرف منافسة حرة ظالمة مع صور أوضح وأقل بهتانا، منافسة مصيرها محتوم لغير صالحها.

***

عدت أدقق النظر فيها فإذا بأصابعي تمتد إليها بعد التدقيق تسحبها برفق وتخلصها وهي الضعيفة من زحمة كادت تخنقها وبظهر يدي أزيح بقية الصور التي تناثرت من تحتها ومن حولها إلى ركن بعيد من أركان سطح المكتب، وإذا بي أنهض من مقعدي وأمشي نحو مكان معلوم وأعود وفي يدي مشروبي المفضل لدى ساعات الإثارة وعند الحاجة إلى التركيز أضعه إلى جانب الصورة وأعود إلى التدقيق والتأمل وقراءة ما ظهر من تفاصيلها.   الغريب أن ما خفي منها وجدته حيا في ذاكرتي، لم تغيبه حقيقة أن الصورة جرى التقاطها قبل حوالي خمسة وأربعين سنة في أحد المطاعم التقليدية في زنقة من زنقات طنجة الشهيرة.

***

تصدرنا الصورة أنا وزوجتي وبيننا داليا أصغر أولادي وعلى يميننا ويسارنا عائلات مثل عائلتي، عائلة من هذه العائلات كانت للمضيف، صاحب ومدير أكبر شركات التدريب على فنون وقواعد الإدارة الرشيدة، شركة فلسطينية التمويل والإدارة ومقرها القاهرة وتخرج من دوراتها قادة عديدون من مديري ورؤساء شركات القطاع العام في مصر ودول عربية أخرى. اعتمدت فكرة هذه الدورات مبدأ أن تعقد في أجواء عائلية تخلو من الرسميات والقيود، أجواء هي الأقرب إلى أجواء العطلات منها إلى أجواء العمل. رشحتني لدورة طنجة الأمانة العامة للجامعة العربية أو لعله كان نبيل شعث مدير الشركة أو كان محمد الفرا رئيس إدارة فلسطين بعد لقاء عمل مطول حضرته معهما بصفتي نائبا لهذا الأخير.

***

الآن، وأنا أتأمل في الصورة ومن حولي أصداء جلبة وأخطار عظمي تحيط بسمعة وكيان فلسطين، يهمني جدا أن أشيد بما أضافته هذه الدورة التدريبية، الفلسطينية الإدارة، إلى تاريخي وسمعتي في مختلف جوانب علوم الإدارة العليا، وبما أضافته من سعادة إلى زوجتي وابنتي وأنا نفسي بعد سنوات من هجرة إلى تونس لم تجتمع خلالها هذه العائلة إلا قليلا، هجرة لها في حد ذاتها قصتها وحكاياتها.

***

زرت المغرب مرارا ولم تكن طنجة في أي مرة على الطريق نحو هدف أو هدفا في حد ذاته. أعرفها من أفلام السينما وروايات الجاسوسية. عشت سنوات مراهقة منشغل أكثر مما يجب بأفلام تحكي قصص الحرب العالمية وبالسياسة والغرام مختلطين أو متداخلين. ما زلت إلى يومنا هذا ما أن يأتي ذكر كازابلاِنكا مثلا إلا وأجد نفسي أدندن في صمت أغنية غناها في الفيلم الشهير “كازابلانكا” المغني الأسود دولي ويلسون وعنوانها “أما والزمن يمر” وتحكي قصة حب بين همفري بوجارت وإنجريد برجمان في قلب مدينة كانت تعج بالجواسيس ومؤامراتهم  خلال الحرب العالمية.

***

بالفعل كنت كلما زرت الدار البيضاء أتخيلها في وقت الحرب. أسأل عن شوارعها القديمة وأزقتها الأقدم وملاهيها الليلية. أسأل كبار السن عما سمعوه من آبائهم أو أجدادهم عن سنوات الحرب، ومن فرط اهتمامي بالمدينة تصور كثيرون من رفاق العمل والأنشطة الترفيهية أنني واقع في حبها أو في حب ساكنة أو مقيمة فيها. أحكي لهم حكايتي وأنا أتمشى مع صديق نزل من موقع عمله بسفارتنا في الرباط لزيارتي في الدار البيضاء، كنا نتكلم  بصوت غير خفيض، عن مفارقات في اجتماعات القمة العربية التي انعقدت في هذه المدينة، فإذا بفتاتين في سن الشباب تصادف مرورهما على مقربة منا يعلقان على لهجتنا، قالت إحداهن عن لهجتنا “يتكلمون سيما”، صححتها الأخرى بقولها “إنها اللهجة المصرية”.

***

حكاياتي مع الدار البيضاء كثيرة لا يمكن، أو لا يجوز، اختصارها في سطور قليلة. وقعت كذلك في حب طنجة، ولم أكتب هنا سوى سطور قليلة عن موضوع لا يتعلق بما أردت وصفه عن شوارع نصف المشوار إليها سلالم صاعدة أو هابطة، أو عن مطاعم صغيرة تسلب لب الزائر كادت، بقليل المبالغة، تقتصر على مائدتين ومطبخ وعجوز أنيق يطبخ ويخدم  وينظف ويدردش ويحاسب، كله في آن واحدة.

***

مطاعم أخرى مثل كثير غيرها زرتها في فاس والرباط والدار البيضاء، يجلس الزبائن قرب الأرض حول مائدة مستديرة يتوسطها وعاء من الصيني أو الفخار الفاخر ملئ بالكسكس ومزدان بالخضر المسلوقة أو المشوية ولحم الضأن، عنها جميعا تصدر رائحة لم أشم في مثل جاذبيتها ورقيها وقدرتها على فتح الشهية رائحة أكلة أخرى في مطاعم دول زرتها أو أقمت فيها في أي مشرق من الثلاث، الأدني والأوسط والأقصى.

***

تفاديت الكتابة عن السوق العربية في كل هذه المدن وبخاصة الدار البيضاء، وعن أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين سوق الحميدية بدمشق وحي العطارين بقاهرة المعز. لنا عودة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version