طلال سلمان

صمود عربي ضرورة اوروبية

بعد فرنسا، ها هي المانيا تتقدم خطوة على طريق بلورة موقف أوروبي مشرقي، »مستقل« عن الموقف الاميركي أو متمايز عنه، وان كان لا يخرق سقف السياسة الأميركية المعلنة والمعتمدة في المنطقة والتي تستهدف اتمام صفقة »الارض مقابل السلام« لانهاء الصراع العربي الاسرائيلي واستيلاد شرق أوسط جديد..
في الحالتين كان عنوان الموقف الأوروبي، الفرنسي بداية ثم الالماني، فتح قنوات اتصال مباشر مع كل من ايران وسوريا، واستطرادù »حزب ا”« في لبنان، تتجاوز ما تعتمده واشنطن (رسميù) وما تنادي به او تروج له اسرائيل (اعلاميù)..
الفارق ان فرنسا شيراك قد فرضت نفسها بالالحاح كما بحسن قراءتها للاحتياج الاسرائيلي، ومن ثم الأميركي، على حكومة شيمون بيريز الراحلة، في »تفاهم« نيسان 1996، وتحديدù بعد المجزرة الفضيحة الاسرائيلية في قانا، بينما المانيا هيلموت كول التي باشرت »وساطتها« بتكليف من بيريز نفسه، وقبل أربعة أشهر من سقوطه، توصلت الى طرح عرض لا يملك ان يرفضه بنيامين نتنياهو (وان كان طمس دور سلفه فيه) فأكملت مهمتها وانجزتها بعملية تبادل الاسرى والجثث (والتي لما تتم فصولا عند معبر كفرتبنيت، يوم امس).
واذا كان الالمان ما يزالون على تحفظهم وحذرهم الشديد من استفزاز »السيدين« الأميركي والاسرائيلي، فان اصرارهم على المضي في سياسة »الحوار النقدي« مع ايران، كنهج أوروبي، معتمد رسميù يستند الى ويتكامل مع »الشجاعة« الفرنسية التي تتخذ من سوريا مدخلا جديدù الى »علاقتها التاريخية« مع لبنان، ومن مصر مدخلا الى دور عربي أوسع عنوانه »الثقافة«، وان أطلت منه صفقات الدبابات وربما الطائرات متى وصل الامر الى السعودية وسائر الخليج، ويوازن فيه مغرب الحسن الثاني ايران الثورة الاسلامية للوصول الى سياسة مرنة وحيوية مع مسلمي أواخر القرن العشرين.
لا ضرورة لتبيان أهمية الدور الأوروبي »المستقل« في هذه المرحلة من تاريخ منطقتنا، وللطرفين معù، ولكن بعض ما يكشفه هذا الدور ان اسرائيل ذاتها محتاجة الى »التفاوض« ومستعدة لدفع التكاليف متى »حضر« المفاوض العربي وأثبت جديته في المواجهة على الطاولة، التي قد تكون أقسى من المواجهة بالسلاح، وهي في أي حال، أحد جوانب الصراع العربي الإسرائيلي المفتوح حتى إشعار آخر.
الحقيقة أن إسرائيل المشبعة بأسطورة أنها لا تقهر، وأنها إن هي حاربت انتصرت حكمù، لم تفاوض جديù من بين العرب إلا من قاتلها وما زال مستعدù لقتالها حتى وهو ذاهب إلى المفاوضات معها،
أما الذين وقّعوا من قبل أن يفاوضوا فعليهم أن يتحملوا نتائج انهيارهم، أو تسليم سلاحهم بينما المعركة مفتوحة بعد،
وبقدر ما تكون المفاوضات جدية وقاسية وصعبة، وذلك هو الأمر المنطقي بل البديهي في مثل الصراع العربي الإسرائيلي، يتسع الهامش أمام قوى عالمية أخرى (غير الأميركي) لتلعب دورها الطبيعي بحكم مصالحها لتصحيح الميزان المكسور، بما يعزز حكمù الموقف العربي، الذي كاد العجز أو الخوف أو الرغبة في الراحة ولو على حساب الحقوق الوطنية، يجعله رهينة الموقف الأميركي المرتهن أو المتطابق مع الموقف الإسرائيلي، وأيضù لأسباب مصلحية لا أثر للعقائد أو العواطف فيها.
مرتان خلال شهرين، أمكن لصلابة الموقف، وللصمود في مواجهة النار الإسرائيلية المعززة بالتأييد الأميركي المطلق، أن يفتحا ثغرة في جدار »التصلب« الإسرائيلي، وهو لم يختلف كثيرù ما بين بيريز ونتنياهو، وأن يوصلا إلى نتائج مختلفة تمامù عن تلك »المتوقعة« وفقù للقراءة المنهجية لفارق القوة بين إسرائيل وبين العرب مجتمعين (؟) ومعهم إيران.
إن إسرائيل قوية جدù، من قبل أن يتولى حكمها بنيامين نتنياهو، وهي الآن ليست أعظم قوة من ذي قبل، بل لعلها أضعف، دوليù، بشهادة ما جرى في نيسان الماضي وبالأمس في كفرتبنيت.
هذا لا يعني أن العرب قد حققوا انتصارين، لكن بعضهم وبالحد المعقول من الصمود ومن حسن القراءة لخريطة المصالح وتعارضاتها (حتى بين الحلفاء)، أمكنه أن يمنع إسرائيل من إضافة انتصارين مجانيين إلى سجلها الحافل بالانتصارات لغياب الخصم!
وفي الوقت الأميركي الميت، وفي ظل الحيوية الأوروبية المتنامية والتي تشكل جولة وزير الخارجية الفرنسية الجديدة تعميقù لشرعيتها وضرورتها، يمكن للحد الأدنى من الصمود العربي أن يحقق نتائج مقبولة أولها وأهمها إنهاء »أسطورية« نتنياهو وإعادة الاعتبار إلى »التفاوض« كمدخل إلى تسوية ممكنة بدلاً من شعاره: الأمن المطلق لإسرائيل كأساس لسلام مستحيل!

Exit mobile version