طلال سلمان

صفحة في ملف قديم

أطلت بإلحاح من تحت أوراق كثيرة. أخرجتها ونفخت الغبار عنها. صفراء حوافها وزاعقة بالجرأة بعض كلماتها وهالكة أطراف حروفها.

بأصابع مرتعشة سحبتها من أحد أركانها الصفراء. استعنت بضوء إضافي وجهد مضاعف لأتعرف على من كتبها وتاريخ كتابتها. استغرقت المحاولة وقتا. تغلب الفضول على اليأس حتى ركنت ومعي الرسالة في بقعة هادئة، أحنو عليها خشية وحمدا وأهنئ النفس بمتعة لم يغدق زماني بمثلها من سنين.

كتبت.. ألقاك بدون ثالث معنا أو بيننا أو في داخلنا. حتما سوف ألقاك. قطع كثيرة متناثرة جمعتنا وهي الآن تدعونا لنعيد تركيبها. بعض ذكرياتنا أو كلها تتدافع لتقنعنا، كل على حدة وكلها مجتمعة، أنها تستحق أن تحكيها حكاية واحدة. تحثنا أن نلتقي نلم “فتافيت” ما فعلنا، نشكل منها وقفات كبرى في علاقتنا ثم نضمها إلى سجل لم نؤلفه ولم نتدخل في صنعه، كنا، أنت وأنا مسيرين ولم نكن مخيرين ولم نحتج ولا شكونا. نحتج على ماذا ونحن نعيش في نعيم. نشكو ماذا ولمن وكلانا يحمد الجميل لكل شروق ولليل لا ننام فيه إلا لنحلم بما فاتنا.

نعم، لا بد من لقاء لكلام يجب أن يقال. تقول ما عندك ولم تبح به إلا لغيري. وأقول ما عندي. ما عندك لتقوله كثير وما عندي أكثر. الكلام المحجوب أكثر من المباح وبخاصة عندك. ما في رأسينا ليقال يملأ ساعات وصفحات ولكن ما في قلبينا، قلبك وقلبي، يملأ شهورا ومجلدات.  تعالى يا أغلى من في كوني، تعالى إلى لقاء. لا تؤجل من فضلك. فما في القلب يلح ليخرج. حبسته حتى صار المحبوس لكثرته يوجعني.

تتذكر يوم أقنعتك بأن نغيب سوية عن الدروس ونقضي اليوم الربيعي الرائع في حديقة الأندلس. حديقتنا التي هي حديقة الحب. هناك اختفيت أثناء اللعب في بيت جحا. بحثت عنك دون جدوى. خشيت أن تكون خرجت من الحديقة بدوني.  ظهرت بعد دقائق مرت بي كالدهر الذي لا يألوا على شيء ولا على أحد. وجدتني أبكي. كنت أبكي خشية أن تصدق أمي التي كانت تقول لي ولإخوتي ” يا ولاد.. الحاجة الحلوة ما بتقعدش”.

أحطتني بذراعيك وأخذتني إلى حضنك. تعرف أنني كتبت لك عن هذا الحضن وما ترك من آثار. ولكنك لا تعرف أنني ائتمنت ابنتي عليه دون ذكر اسمك عندما بدأت تحب. هي الابنة التي لقنتها بنفسي أبجدية الحب ونحوه وصرفه حتى كتبت عنه في روايتها الأولى ذائعة الصيت وواسعة التوزيع. أنا فخورة بها وبك. كلاكما تلقى الدرس الأول في الحب على يد أستاذة لم ينضب معينها .

تعالى مرة أخرى نقلب أوراق سيرتنا المشتركة. تعالي نقرأ معا ما كتبت أصابعي عن بدايتنا.  نعم أنا رسمت لك ولي خريطة طريق. استوضحنا معا كثيرا مما كنا نجهل. خفايا الحب لا حصر لها، ومسالكه محفوفة بالمخاطر، وخطواته الأولى تبقى محفورة إلى سنوات متوغلة في العمر المتقدم، والجروح الناجمة عن سوء فهمه تصبح مع الوقت دروسا ناعمة نسربها لصغار السن وأجراس تنبيه في قوة أجراس الكنائس ندقها لكبار السن. تذكر كم من المرات تدخلنا فنصحنا زميلات وزملاء أن يتفادوا الوقوع في الحب بالتمهل والتريث والصبر والاحتماء بالثقة في النفس. الوقوع في الحب يحمل في تطوره مذلات ومشكلات بينما الرغبة فيه والتدرج في الإحساس به يزيد من فرص الاستمتاع به .

كنت، ولا تزال، أصغر مني. علمتك الحب وعلمتني الصبر. في الحديقة كنت أركض وأتقافز وأغني وأرقص وكنت تمشي وإن قابلتك حواجز درت حولها. كنا في رحلة. سمعتك في غرفتك تغني وأنكرت ولم تعترف يوما بأن صوتك يستحق أن يسمعه الناس. لمستك أول مرة قبل أن تلمسني. حضنتك قبل أن تحضنني. دعوتك للخروج ولم أنتظر أن تسبقني فتدعو. كنت دليلك عن أسماء مختلف الأماكن ومختلف الأشياء ومختلف الناس. لم تكن دخلت حدائق المنتزة حتى وجدتني هناك في انتظارك. عبرنا الألب معا أنت تقود وأنا أغازلك. قدمتك إلى نجوم الحياة الحلوة في روما ودعوتني إلى عشاء فاخر في فيلا آدا حيث كان يقيم آخر ملوك إيطاليا. أحببت في هذه الدعوة اهتمامك بي وانشغالك باستمتاعي وسعادتك لإقبال كبار الشخصيات السياسية على مشاغباتي وشقاوتي المعتادة. يومها رأيتك في بيئتك الطبيعية التي اخترتها أو اختارتك فغبت عني سنوات، غبت عن بصري وعن لمسات أناملي، غبت عن أحضاني.

أكتب الآن هذه السطور القليلة عن جوانب صغيرة من سيرتنا. أكتب لك وحفيدتي قرب كتفي تظن أنها تمشط شعري بأصابعها الصغيرة الناعمة. ما أحلاه مشطا. حبيبي، تسألني بالتأكيد إن كنت أفكر فيك. كيف لا أفكر فيك وأنت من يحل له من وقتي وزماني ما لا يمكن أن يحل لغيره. دخلت في التو حفيدة ثانية. اقتربت مني لتقبلني. لمحت دمعة تنساب على خدي، مسحتها بأصابع ناعمة وعيناها تحاول أن تقرأ ما سطرته الأيام على وجه كنت تحبه. سطور تتحدى خطوط التجاعيد وتنتصر عليها.

قالت الصغيرة بصوت خافت وكأنها تهمس في أذني، يا جدتي وجهك يختلف عن وجوه جدات صاحباتي وأصحابي. الخطوط فيه أنعم ولدى الشفاه دائما من حلو الكلام وأعذبه ما تحكيه وفي العينين بريق لا ينقطع. ماذا أفعل بنفسي وبحياتي ليكون لي عندما أكبر مثل هذا الوجه؟.

أشحت بوجهي جانبا تهربا من إجابة وإلحاح مؤكد للحصول عليها. احترت بماذا أجيب. هل أقول لها أن مثلك، مراهقا كنت أم شابا يافعا أم كهلا، لن يأتي به الزمان إلا نادرا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version