طلال سلمان

صراعات سلطة تلغي عيد وطن

… وكان عيد الاستقلال مناسبة ذهبية لكشف المزيد من الأخطاء بل الخطايا التي ارتُكبت وتُرتكب فوق قمة السلطة، بلا وازع من خوف أو خجل، والتي تسيء إلى صورة لبنان في دولته وإلى شعبه في وحدته: فلا تصرفات كبار المسؤولين كانت في المستوى الذي يصون الحاضر ويحميه، ولا كلامهم كان في مستوى الطموح إلى الطمأنينة في الغد الذي يجيء من قلب المخاطر.
لقد تصرف بعض المسؤولين وكأن المناسبة تخص غيرهم، وأن غيابهم عنها يندرج في باب الخصومة مع »أصحابها«، فأساؤوا إلى أنفسهم وإلى مواقعهم عبر الاستهانة برمزية العيد واحتفاله الذي ينهض به الجيش، عادة، والذي اكتسب بعد إجلاء الاحتلال الإسرائيلي بالمقاومة الباسلة عن التراب الوطني دلالة تضيف إليها قيمة الدم الطاهر الذي أراقه المجاهدون من أجل تحريرها.
كان منظر الاحتفال في ساحة الشهداء التي ما زال النصب التذكاري لمن تتشرّف بهم غائباً عنها، بائساً، يفتقر إلى بهجة العيد وجلال الذكرى.
لكأنما بات العيد غريباً عن أهله.
لكأنما صار الأهل بلا عيد وطني، بينما أعياد الطوائف والمذاهب تستحضر الغائبين، ولو موتى، لتكرّس الانقسام ولتضعف من أهمية الدولة الجامعة.
ومن أين يأتي العيد إذا كانت قمة السلطة، التي يفترض، نظرياً، أنها احتكار لرفاق السلاح في »الخط« الواحد، منقسمة على ذاتها، بل ومتصارعة في ما بينها بما يهدد الدولة ووحدة شعبها؟!
* * *
ما قيمة الوعود والتعهدات، في الخطب والتصريحات، بل وحتى قرارات مجلس الوزراء، إذا كانت تتخذ بالنكاية غالباً، وبالتواطؤ أحياناً، فتلغي المؤسسات (ومجلس الوزراء بداية!) وتشل الإدارات وتعطل هيئات الرقابة (مَن يتذكرها؟!) وتسيء إلى القضاء فتصوّره وكأنه »طرف مخاصم« أو أداة للانتقام، وتضعف ارتباط الناس بأرضهم فتفقرهم، وتدفع شبابهم الأمل إلى الهجرة يبيعون كفاءاتهم التي كلفت أهلهم غالياً لمن يشتريها فيؤمنهم على مستقبلهم الفردي بعدما حُرموا من المشاركة في مستقبل أفضل لبلادهم بجهدهم وعلمهم وتعب العيون وعرق الزنود.
كأنما من يتربعون على قمة السلطة لا يعرفون(؟!) حال البلاد، باقتصادها الذي ينزف مدخرات الأجداد والآباء… فالزراعة لم تعد تطعم الذين تعوّدوا أن يعطوا الأرض فتعطيهم الخبز مع الكرامة، ومواسمها بمختلف الثمار كاسدة لا تسد الكلفة! والصناعة الناشئة لا تجد الحماية الضرورية لتشجيع المغامرين بأموالهم وخبراتهم من أجل تلك البطاقة الصغيرة والمنعشة »صُنع في لبنان«، ولا هي تجد الأسواق التي تسهل فيها المنافسة، والمؤسسات الخاصة المتوسطة تمشي نحو الإفلاس بعد المؤسسات الصغيرة التي أقفلت أبوابها وشردت العاملين فيها.
* * *
… وكأنما من يتربعون على قمة السلطة لم ينتبهوا إلى حال الحصار المفروضة على لبنان، بل إنهم لم يتنبّهوا إلى حال الحرب التي أعلنتها الإدارة الأميركية عليه في »القانون« المعنوَن باسم سوريا والذي يتخذ من لبنان ساحة مواجهة مع اللبنانيين وتأديب لمن يتمسكون بحقهم في أرضهم، قبل السوريين ومعهم وبعدهم.
بل إنهم لم ينتبهوا إلى أن هذا »القانون« المخالف لكل شرائع الدنيا يُسقط عنهم هم المتربعون على قمة السلطة في لبنان بالذات الشرعية، ويعتبرهم مجرد أدوات أو دمى في يد السوري الذي صنّفه »محتلاً« وملغياً للسيادة التي تحرص عليها »إمبراطورية الديموقراطية بالاحتلال العسكري«… وها هو العراق نموذج ينزف دمه لمن لم يقنعه واقع فلسطين مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يصادر أرضها ويلغي شعبها تمهيداً للاعتراف »بدولتها« التي بلا حدود وبلا سيادة، بل وبلا وجود، إلا في المناورات السياسية التي يُراد منها إقناع العرب بأن إدارة بوش غير منحازة للسفاح أرييل شارون.
كذلك فإن هؤلاء الذين ينعمون بالألقاب السامية ويتنعّمون بفيئها الظليل لم ينتبهوا إلى أنهم من موقع الحليف المفترض لسوريا يحمّلون سوريا أعباءهم ويجعلونها موضع اللوم على ارتكاباتهم، على المستوى المحلي، قبل أن تتقدم الإدارة الأميركية »لتحاسب« دمشق فلا يملكون من الشجاعة ومن الحرص على منافع السلطة ما يكفي للتصدي لدفع التهمة والتأكيد أنهم، في ما يخصهم في مناصبهم على الأقل، أصحاب رأي، بل وأصحاب قرار.
لم ينتبه، من يقتعدون قمة السلطة في لبنان بوصفهم الحلفاء المخلصين لسوريا إلى ما يدبر لسوريا، وإلى »الغارات« التي تُشن عليها، بالطيران من طرف إسرائيل، وبتغطية »تشريعية« من طرف واشنطن، ودائماً عبر لبنان وباختراق سيادته ومواقع هؤلاء المسؤولين الذين يتنعمون بخيرات السلطة ثم يتركون سوريا تذهب (وربها) فيقاتلان..
ولم ينتبه هؤلاء الذين ينتبهون إلى أبسط »حركات« خصومهم الشركاء، إلى ما جرى للعراق وما يجري فيه، مما يهدد بتبديل خريطة المنطقة وكياناتها السياسية، فضلاً عما يتهدد شعوبها من ويلات لا يملكون لها رداً إلا بتوحيد المواقف والاندفاع في التضامن إلى أقصى ذراه، وبالانضباط وحماية الاقتصاد الوطني، أو أقله بوقف الانهيارات فيه أو النزف الخطير والمتفاقم خطورة بتفاقم الدين العام.
بل إن هؤلاء الذين يفترض فيهم أن يعرفوا اتجاهات الريح، لم ينتبهوا إلى ما جرى ويجري للسعودية وفيها من كوارث ومذابح جماعية
تواكبت بالمصادفة القدرية!! مع رفع الغطاء الأميركي عن »الصديق التاريخي« في المملكة الغنية، وإعلان واشنطن »استغناءها« عن قواعدها فيها، ومواصلة الهجمات السياسية والمالية والإعلامية على الأسرة الحاكمة التي كان لها موقع الصدارة بين حلفاء واشنطن أقله بفضل ولائها المطلق ونفطها منذ سبعين عاماً أو يزيد.
ثم إن هؤلاء الذين يستغنون بمعارفهم ومعلوماتهم وتقديراتهم ورؤاهم عن كل عالم وعن كل علم، لم ينتبهوا إلى ما أصاب تركيا في صميمها، عبر المذابح التي ارتكبت في مدينتها درتها اسطنبول من يريد إرباك (بل إسقاط) الحكومة ذات التوجه الإسلامي فيها، والتي بدّلت مناخ الخصومة مع العرب عموماً، بالعنوانين السوري والفلسطيني إلى علاقات ود وحسن جوار، كما تفترض المصلحة ويفرض المنطق.
لم ينتبه هؤلاء الحاكمون إلى أن »الإرهاب« في طبعته الجديدة إنما يصب في مصلحة الإدارة الأميركية وحليفها القوي عليها وبها السفاح أرييل شارون.. فعمليات القتل الجماعي العشوائي، التي استهدفت بتفجيراتها الأخيرة ضحايا هم بأكثريتهم الساحقة من العرب والمسلمين (في الرياض مرتين وفي اسطنبول مرتين)، إنما هي تقدمة أو هدية ثمينة للحلف الأميركي الإسرائيلي يغطي بها على جرائمه في كل من فلسطين والعراق وأنحاء أخرى من المعمورة.
* * *
لقد اغتيل العيد مرتين: في مظهره وفي دلالاته..
فإن تغلب الصراعات فوق قمة السلطة على رمزية الاحتفال بالذكرى الستين للاستقلال، إنما يدل على أن حكّامه يتصرفون وكأنهم »مستقلون« عن مصير الوطن وهموم شعبه، وعن الدولة ومؤسساتها.
لكأنهم »مستقلون« واحدهم عن الآخر، و»كلهم« عمّا يجمع بين اللبنانيين ويوحدهم حتى في المناسبة الأعز على قلوبهم برمزيتها، في أقل تقدير.
وكل استقلال وأنتم بخير!

Exit mobile version