سقط حلم السيدة تيريزا ماي أن تحتل ذات يوم المكانة التي كانت تتمتع بها السيدة مارجريت تاتشر. سقط يوم أخذت قرارها غير المبرر على الإطلاق؛ دعوة الناخبين في المملكة المتحدة لانتخابات برلمانية مبكرة. كثيرون وصفوا القرار بأنه قرار غبي. آخرون كانوا أقل قسوة وأكثر التزاما بالتقاليد الإنجليزية فاتهموا صاحبته بسوء التقدير. كان واضحا للمراقبين كافة أن السيدة ماي تتمتع كرئيس حكومة بأغلبية برلمانية أقل ما يقال عنها أنها مريحة. كان المعروف أيضا أن هذه الحكومة تستطيع أن تبقى في الحكم لسنوات تصل إلى ثلاث لا يهددها سوى طارئ أو خطأ جسيم. لذلك كان ولا يزال غير مفهوم قرارها الدعوة لانتخابات مبكرة.
أشترك مع آخرين في الاعتقاد أن السيدة تيريزا ما كانت لتأخذ مثل هذا القرار لو كان لديها الثقة الكافية في النفس التي تؤهلها لقيادة مفاوضات عصيبة مع قادة دول الاتحاد الأوروبي والرئاسة الأوروبية. يختلف هذا الاعتقاد مع رأي سائد بأن السيدة ماي اتخذت القرار بناء على ثقة في النفس مبالغ فيها وليس بسبب قلة ثقة. في الواقع لا خلاف كبيرا بين هذا الاعتقاد وذاك الرأي. نحن نتحدث عن ثقة بالنفس في إطار مفاوضات خارجية سوف تجري مع الاتحاد الأوروبي، الآخرون يتحدثون عن ثقة بالنفس حيال إجراء انتخابات قومية تحصل بنتيجتها على إقرار بزعامتها المطلقة داخل حزب المحافظين المنقسم أصلا في داخله وعلى تفويض بالاستمرار فيما تعتقد أنه الأجندة الأقوى للإصلاح الاقتصادي.
اعتمدت السيدة ماي في اتخاذها القرار على مشورات مساعدين من غير ذوي الخبرة في الحزب والحكومة. اعتمدت أيضا على علاقتها القوية بالرئيس دونالد ترامب وعلى ما اعتقدت أنه الأساس الصلب الذي تقوم عليه العلاقات الأمريكية البريطانية. تظن السيدة ماي مثل عدد من الأقران في الطبقة الحاكمة أن هذا الأساس هو العنصر الجوهري وراء استمرار بريطانيا قوة كبرى فاعلة في النظام الدولي. رددت أوساط سياسية في لندن اعتقادا ساد لبعض الوقت أثناء الحملة الانتخابية، اعتقاد يمنح رحلتها إلى دول الخليج الفضل في تدعيم ثقة السيدة ماي في أصدقاء يدعمون حكومتها الجديدة بالاستثمارات فور تشكيلها ويشدون أزرها أثناء الحملة.
***
لم تدرك السيدة ماي على ما يبدو مدى عمق التحول في المجتمع البريطاني، مثله مثل التحول في معظم مجتمعات أوروبا. الواقع الذي أفرزته الأزمة الاقتصادية في دول الغرب كشف عن هزال أصاب النخب الحاكمة في هذه الدول وعن رغبة عارمة لدى شعوبها في ضرورة التغيير. انكشف في الوقت نفسه حال تذمر عام واحتجاج في صور عديدة بين الشباب. يتردد في الكتابات الأكاديمية وفيما تنشره الصحف المستنيرة الحديث عن الهيمنة المتزايدة على تصرفات الشباب من جانب ظاهرة اجتماعية ناشئة ولكن قوية. إنها الميل المتزايد بين الشباب نحو الاهتمام بقضايا “بعد مادية” مثل العلاقات المثلية والزواج المثلي والتعامل مع المهاجرين والمتشددين قوميا والمتطرفين دينيا. تزداد العلاقات الجيلية توترا وتعقيدا مع استمرار التلكؤ في حل مشكلات شبابية متعددة، مثل مشكلة عدم قدرة الأغلبية العظمى من الخريجات والخريجين تسديد قروض تلقوها خلال مرحلة التعليم الجامعي. منها أيضا، ولعلها من أخطر القضايا، صرف النظر في معظم الاقتصادات الاوروبية عن تعيين الشباب في وظائف دائمة أو طويلة المدة. ولا شك أن المشكلة تزداد حدة في بريطانيا بسبب سياسة التقشف التي تنتهجها حكومة حزب المحافظين الذي ترأسه تيريزا ماي. الغريب في الأمر أن السيدة ماي اعتمدت على أن الشباب لن يشاركوا كعادتهم فأقدمت على إجراء انتخابات لعب فيها الشباب الدور الحاسم في تصعيد حزب العمال وإعادته الى مواقع الصدارة.
***
عاد النقاش حاميا حول أزمة البريكسيت في غمرة اشتعال الخلاف مرة اخرى فور ظهور نتائج الانتخابات. عاد من يلقي بالمسئولية على طبقة حاكمة “هالكة” والشعب برئ منها. هناك من يتهم قيادات في النخبة السياسية البريطانية بأنها لم تدرس بالاخلاص الواجب أو العناية اللازمة مصالح بريطانيا الحقيقية في البقاء عضوا في الاتحاد الأوروبي أم الخروج منه. “خرجوا عن وقارهم وارتدوا ثيابا رثة وراحوا يتحدثون باسم الشعب عن رغبته في الخروج من أوروبا”. قيلت هذه العبارة في وصف القيادات السياسية التي انبهرت أو انزعجت بظاهرة الشعوبية التي بدت كاسحة في أمريكا وأوروبا، فقلدوها ورفعوا شعار البريكسيت وأقاموا حوله المهرجانات الاعلامية وهللوا ورقصوا حتى حصلوا عليه، ولم يكونوا في حقيقة الأمر متحمسين ولا مقدرين الأبعاد الخطيرة لمثل هذا القرار. أستطيع أن أتفهم المنطق وراء هكذا ادعاء وأنا أرى السيدة ماي المتمتعة والمستمتعة بأغلبية برلمانية مريحة لسنوات ثلاث قادمة تقدم على إجراء انتخابات تأتي لها ببرلمان موحد خلفها وشعب موحد. كلاهما يضمن لها أن لا مناقشة من معارضة أو قوى ضغط خلال التفاوض، لا رأي آخر. لسان حالها يقول “أنا وحدي، أو أنا وحزبي نقود، ولا أحد في بريطانيا أو خارجها يتدخل. الشعب كله معي”. تمكن الطمع وجشع السلطة من تيريزا ماي. أرادت كل السلطة ولا أقل من الكل فخسرتها وفقدت بريطانيا مع خسارتها معظم القدرة على التفاوض من موقع قوة.
***
أسأل ويسأل أصدقاء يتابعون ما أتابع. نسأل لماذا لم تتدخل روسيا في الانتخابات البريطانية كما تدخلت في الولايات المتحدة وفرنسا، وكما تدخلت من قبل في المانيا. القائمة طويلة. تدخلت روسيا في ألمانيا حين اقتحمت في عام 2015 أجهزة الكومبيوتر في البوندشتاج. ثم عادت فتدخلت فيما عرف وقتها “يناير 2016” بقضية ليزا. حينها شنت جهات روسية حملة معلومات مزيفة عن فتاة ادعت أن عربا اغتصبوها في برلين. المعروف أن الألمان تعمدوا تهدئة الرد من جانبهم على التدخلين لأسباب تتعلق بمجمل علاقة الغرب بروسيا وبخاصة منذ عهد بقيادة خلافاته مع روسيا إلى السيدة ميركيل.
ثم تدخلت روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية حين اختطفت جهات فيها ونشرت رسائل الكترونية ووثائق من اللجنة القومية الديموقراطية في يوليو 2016، وكان الهدف محل الاتهام هو تسهيل مهمة دونالد ترامب الوصول إلى البيت الأبيض. وفي فرنسا، دعمت روسيا علانية السيدة مارين لوبين وأمدتها بالقروض واختطفت جهات روسية رسائل الكترونية وشنت حملات اعلامية ضد المرشح الشاب ماكرون. يحسب للرئيس الفرنسي أنه واجه الرئيس بوتين صراحة في باريس ومتهما وكالة أنباء سبوتنيك وتلفزيون روسيا اليوم. وقتها لم يكن رد الرئيس الروسي أمام ملايين المشاهدين مقنعا.
لا يخفى أن أغلب زعماء أوروبا الغربية مقتنعون بأن روسيا تشن حربا سياسية شرسة ضد دول الغرب بهدف زرع بذور الشك في نجاعة الديموقراطية وفي مؤسساتها وفي العلاقات بين الدول الديموقراطية. بعضنا يعرف من صلاته بأصدقاء من الروس أن زعماء روسيا مصممون على الاستمرار في هذه الحرب باعتبارها حقا لروسيا بعد عقود عديدة من الحرب الباردة وفي مواجهة خطط توسع وعمليت تخريب لا تتوقف من جانب حلف الناتو.
نعود إلى السؤال الذي لم تقابله حتى الآن إجابة شافية، لماذا لم تتعرض المملكة المتحدة لهجمات روسية كتلك التي تعرضت لها دول أوروبية أخرى؟
***
أثار اهتمامي، ولا شك اهتمام آخرين، خلال الحملة الانتخابية البرلمانية في بريطانيا الجولة التي قام بها السناتور بيرني ساندرز، المرشح السابق لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية. بعثت الجولة اهتمامي، وربما شجعت تربصي، لأي بادرة تدل على محاولة من جانب روسيا للتدخل في هذه الانتخابات. قد يرفض كثيرون اعتبار مثل هذا النشاط من سياسي أمريكي في وقت حساس تدخلا بحجة أن من حق الديموقراطيين في كل مكان في الغرب التدخل لصالح الديموقراطية. كان اهتمامي في محله. لا شك عندي الآن في أن رحلات ساندرز وغيره من “اليساريين” الأمريكيين إلى بريطانيا نجحت في حشد نسبة غير متوقعة من الشباب وراء قضايا مشتركة للشباب في الدولتين، بل وفي عدد من الدول الرأسمالية وبخاصة الغربية. عبرت هذه الرحلات والحشود الشبابية، كما عبرت نتيجة الانتخابات وبحق، عن عمق الأزمة في قلب النظام الرأسمالي، وعن تدهور مكانة الطبقات الحاكمة في الغرب وفشل سياساتها الاجتماعية والاقتصادية.
***
لن تستطيع السيدة تيريزا ماي العودة إلى الوراء، أجندتها طالت وتعقدت. أمامها صحوة شبابية لن يكون سهلا اخمادها. وأمامها مجتمع رافض للتقشف ومحتج بشدة على تدهور مستوى جميع الخدمات بدون استثناء، أمامها أيضا نسبة أكبر من رافضي البريكسيت. والمستفيدين من الوحدة الاوروبية ومن المدافعين عن فكر إن كان لا بد من البريكسيت فليكن ناعما.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق