طلال سلمان

صحفي وفنانة.. لقاء في الطائرة

الفنانة ترد على المضيفة: أفضل البدء بشرب الماء. من فضلك لا يكون مثلجا.

الصحفي للمضيفة: أشرب من نفس ما شربت منذ قليل.

الفنانة  للصحفي: حضرتك مصري؟

الصحفي: نعم. وحضرتك؟

الفنانة: معقول! أول مرة أقابل من يسألني هذا السؤال.

الصحفي: في زمننا صار صعبا التكهن. فما ترتديه معظم النساء في العمل وفي الأماكن العامة يكاد يتطابق. صناعة الأزياء نجحت في عولمة المرأة، وصناعة الزينة جعلت المرأة الأوروبية نموذجا تقلده النساء في مختلف بلاد العالم.

الفنانة: لم يكن السؤال عن جنسيتي مصدر استغرابي. إنما استغربت حقيقة أنك لم تعرف من أكون، أنا التي في ظنها أنها في بلدها كالنار فوق العلم. إذا مشت في الشارع تنادي المشاة وهدأت السيارات من سرعتها، وإذا جلست على مقهي تغامز الرواد وراحوا يبتكرون فرص الاقتراب للتقرب، وإذا ركبت طائرة هللت لوصولها المضيفات واعتدل الركاب في مقاعدهم. لا أخفيك أن وكيل أعمالي يرتب لي ومعي تفاصيل لحظة دخولي وليضمن جلوسي في موقع يراني فيه الرائح والغادي في ممرات الطائرة.

الصحفي: دعينا لو تكرمت نستعيد المشهد من بدايته ونرسم مشهدا جديدا يتناسب وأوضاع مختلفة طرأت عليه ولم تدخل في حسابات وكيل أعمالك وفي حساباتك. واقع الأمر في المشهد الجديد أن المضيفات لم يهللوا عند وصولك على باب الطائرة إنما استقبلوك بابتسامات يستقبلن بمثيلاتها كل الركاب لا فضل لراكب ذي شهرة على راكب غير ذي شهرة. كذلك لم يتغير سلوك الركاب عند دخولك لا هم اعتدلوا في مقاعدهم ولا هم نهضوا منها مرحبين. أنا من بين عديد الركاب نهضت ليس لأنك راكبة  مشهورة ولكن لأفسح لك الطريق لتدلفي بيسر نحو مقعدك المجاور لشباك الطائرة. قلت إنك من المشاهير وفهمت أنك فنانة. لفت نظرك ولا شك أنني لم أبد أي ملاحظة ولم أنطق بأي عبارة يفهم من أيهما أنني أستقبلك مبتهجا بحظي المبارك الذي أتاح لي نعمة الجلوس في مقعد مجاور لمقعدك. دلت تصرفاتي على حقيقة لا يمكن نكرانها أو الالتفاف عليها وهي أنني لم أتعرف عليك كشخصية معروفة في المجتمع. سيدتي أو آنستي الفاضلة اسمحي لي حسب المشهد القائم أقدم لك نفسي، اسمي (ج.ع.)، أعمل صحفيا ولكن في نشاط أبعد ما يكون عن ساحات الفن بكل أنواعه، بعيدا عن ساحات الفن التشكيلي والفن السينمائي وفنون الموسيقى والغناء وفنون الرقص ومنها البلدي والباليه وغيرهما. لذلك أعترف لك أنك كفنانة لم تدخلي في اختصاصي الصحفي وبالتالي لم تسنح لي قبل اليوم فرصة لنتعارف أو لأتعرف عليك ولو عن بعد.

الفنانة: أنا اسمي (أ) ومصرية طبعا.

الصحفي: تشرفت يا فندم. يعني صحيح ما يتردد عن أن عامة المصريين إذا عنت لهم الرغبة في الاستمتاع بمواهب ولاد بلدهم لازم يسافروا لهم في الخارج. يعني مثل حالتي.

الفنانة: ها ها ها. طبعا من حظك الطيب أنك قابلتني. ولكنك لم ولن تستمتع بموهبتي طالما بقينا محبوسين بين سماء وأرض.

الصحفي: يعني أعتبر هذه الكلمات دعوة رقيقة من جانبك لأحضر في أول حفل ينتظم في القاهرة من أجلك بخاصة أو تشتركين فيه. لا أستحي من قول دعوة لأنني ومن هم في مثل ظروفي لا يملكون رفاهة فائض الدخل الذي يدفعون منه ثمن تذكرة حضور حفل من حفلاتك. على الأقل هذا بعض مما أسمعه عن أسعار تذاكر حفلات فن وفناني هذه الأيام.

الفنانة: من فضلك. إسمع وزملاءك عن أهل الفن ما تشاؤون ولكن بحذر. فالمبالغة أصبحت سيدة الكتابة الصحافية في مصر عن الفنانين والفنانات وكذلك الحسد ونشر النمائم وما استجد في لغة وعقائد جمهور السوشيال ميديا، حتى العقائد السياسية البسيطة لم تسلم من التشويه. خذ مثلا هذا النوع من الوطنية الزائفة الزاحفة لتحل محل الفاقد من الوطنية الحقيقية والصادقة… أنا وغيري من الفنانين ضحايا هذه الوطنية الزائفة. من فضلك لا تقاطعني..

الصحفي: أريد فقط تصحيح بعض المعاني في مفردات وردت في كلامك. الجمهور غير مسئول عما آلت إليه فنون مصر وآدابها وعلومها ولا عن فنانيها. دعيت قبل أسابيع إلى لقاء على شرف ضيفة أجنبية تخصصت أكاديميا في دراسة تاريخ الرقص الشرقي وأصول ومنظومة أخلاقياته وسلوكيات المبدعات من راقصات مصر. قالت شاكية أنها في هذه الزيارة الأخيرة لم تقابل مصرية واحدة تستحق أن تصطف في صف مشاهير الرقص الشرقي. دارت على ملاهي الفنادق الرخيصة والشهيرة على حد سواء تسأل عن حال الرقص الشرقي في غياب الراقصات المصريات من حاملات رسالة هذا النوع من الرقص. وجدت برازيلية وفرنسية وأسبانية وأمريكية، كلهن يمارسن رقصا غريبا عليها، وحسب رأيها وهي الخبيرة المتخصصة، لا يمت لفن الرقص وتاريخه بصلة. اختفت الرواية والحب والتعاطف والشكوى والقوة والضعف منسجمين وكلها كانت مكونات أساسية وضرورية في تشكيل عبقرية الرقص الشرقي. سألت الأجنبية عن راقصات مصر.. فاجأتها الإجابة.. رحلن مع فنانين كثيرين إلى بلاد سبقتهم إليها الفرص. أنا الآن أسألك إن كنت واحدة من هذه الطيور المهاجرة. هل أنت قدوة أخرى تفقدها مصر في سباق الفقد الواسع الجاري هذه الأيام.

الفنانة: تظلمني. كلكم تظلموني. أنتم من دفعني لأن أغرد في مكان آخر بعيدا عن الكرمة التي نشأت قريبا منها وتعلمت فيها على أيدِ مواهب نادرة. أحصل في الخارج على مكافآت خيالية وأعيش في إغراءات لا قيود تحدها. صدقني أيها الشاب إن قلت لك في اعتراف غير مطروح للنشر، أنني أدفع الثمن غاليا، أدفعه من نظرة إنكار في عينيك، نظرة مواطن مصري لم يتعرف على اسمي أو هويتي أو جنسيتي. لم أحظ منك ولو بأقل القليل من الاهتمام الذي حظيت به المضيفة التي جاءت إلينا تسألنا عما نريد أن نشرب تمهيدا لرحلة العودة. لم تخطئ التعرف عليها فاسمها منحوت على صدرها ولهجتها كاشفة عن هويتها، ولكنك لم تحسن التعرف على جارتك التي نشأت ونضجت واشتهرت وفي ظنها، وعن حق أحيانا، أنه ما من مصري يولد إلا وهو يردد اسمها.

أكرر ولا أبالغ كثيرا، أكرر القول إن كل فنان مصري من نوعي ومن عمري ومن كان في شهرتي يعتقد في قرارة نفسه أنه من سلالة أهرام خوفو، كبير كالهرم، باق كالهرم، محفور في ذاكرة كل مصري كالهرم. تهب الزوابع وتنهمر الأمطار وتتلاحق الأجيال وهو صامد صمود الهرم.

الصحفي: حتى الهرم يا سيدتي، أو آنستي، لو رحل قليلا أو طويلا وعاد ففي غالب الأمر وهو الذي ظن أن جذوره راسخة في قلوب الصخر سوف يجد بين المستقبلين من ينكره ومن يتنكر له. والأدهى لو وجد بين المستقبلين صحفيا باحثا عن إثارة أو معدما ينتظر دعما. قد يجد، وفي الغالب لن يجد، بينهم معجبا بعظمته التي دخل عليها في رحلاته تجديد وتعديل أو تطوير وتشويه.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version