طلال سلمان

صائب سلام كضرورة راهنة

هي مصادفة قدَرية ولكنها بالقصد خير من ميعاد: أن يستذكر اللبنانيون الرئيس الراحل صائب سلام، في هذه اللحظة بالذات، وضمن المناخ الحربي الذي استولده الحكم بالتحدي في مواجهة المعارضة بالتصدي .
فصائب سلام هو من ابتدع فصكَّ مجموعة الشعارات التي لخصت ما يمكن اعتباره قواعد الحكم التوافقي الذي يضمن استمرار الصيغة اللبنانية ويجنبها مزالق التهاوي في غياهب الانقسام الذي لا يستطيع تعديلها أو تغييرها إلا… بالحرب الأهلية.
ولأن اللبنانيين يعيشون، الآن، في ظل خوفهم الشديد على الصيغة ومن ثم على الكيان ، أي على الدولة ، بينما تشارك السلطة بل لعلها تتقدم على معارضيها في تعزيز مناخ الانقسام، فإن البديهي أن يستعيدوا بكثير من التقدير ذلك المنهج الذي كان صائب سلام أنجح من لخصه بالشعارات الركائز لثبات النظام ودوامه.
وشعارات صائب سلام هي تكثيف لقواعد العمل السياسي في كل مرحلة من مراحل الاضطراب التي شهدها لبنان فهددت صيغة الحكم فيه وبالتالي نظامه وكيانه..
بعد أحداث 1958 التي انتهت، كما هو معلوم، بانتقال سلمي للسلطة من الرئيس الراحل كميل شمعون إلى الرئيس الراحل فؤاد شهاب، في خيمة التوافق العربي الدولي التي نُصبت على الحدود اللبنانية مع دولة الوحدة الجمهورية العربية المتحدة بقيادة القائد جمال عبد الناصر آنذاك ، صك صائب سلام الشعار الشهير الذي لخص قاعدة للحكم، وبالتالي للاستقرار النفسي والسياسي: لا غالب ولا مغلوب.
وبعد دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، بموجب اتفاق القاهرة الشهير، وما أحدثه هذا الدخول من ارتجاجات في هيكل النظام، وما أثاره من مخاوف سرعان ما تفجرت صدامات بين السلطة (وجمهورها) والمقاومة، التي كانت تحظى بشعبية واسعة باعتبارها طليعة الجهاد من أجل تحرير فلسطين، ابتدع صائب سلام شعار التفهم والتفاهم ، كقاعدة للتعامل الأخوي، مع تقدير كل طرف لاحتياجات الطرف الآخر وظروفه، من داخل الالتزام بموجبات التضامن العربي، وبالذات مع شعب فلسطين في جهده المقاوم للاحتلال الإسرائيلي.
.. وعندما ذرت الفرقة قرنها بين اللبنانيين، مع انفجار الحرب الأهلية في العام ,1975 طلع عليهم صائب سلام بشعار توحيدي يتجاوز الانقسام ليؤكد لبنان واحد لا لبنانان ..
هناك شعارات أخرى ابتدعها صائب سلام أو هو صكها بخبرة عميقة بطبيعة هذا النظام للدولة التي تم رسم علمها الوطني في منزل والده أبي علي سلام ، وحمل تواقيع تلك الكوكبة من صنّاع الاستقلال وبينهم وارث الدار والزعامة السياسية… لكنها جميعاً كانت تؤكد على الوحدة وتنبذ الفرقة وترفض الانقسام الذي سرعان ما سوف يتخذ شكل الفتنة التي من شأنها ان تدمر الكيان ودولته الدقيقة التوازنات.
? ? ?
تُرى، هل قصد الفنان الذي ابتدع هذا المعرض، جورج الزعني، المقارنة بين ما كنا عليه وما نحن عليه؟ وهل اراد تذكير القائمين بالأمر اليوم بالقواعد والمبادئ التي تحمي وحدة اللبنانيين واستقرار نظامهم السياسي، بينما يتبدى لبنان مهدداً بانقسام حاد ان لم نقل بفتنة عمياء لن ينفعنا التأييد الدولي الواسع في تأمين الحماية منهما، بل لعله قد يسرع في الانفجار ويبرره؟!
? ? ?
منذ أسابيع، بل شهور، تنادي المعارضة بضرورة قيام حكومة للوحدة الوطنية .. وهي كانت شريكة في الحكومة ثم خرجت منها اعتراضاً على عدم توازنها، بما يضعف مواجهتها للتدخل الأجنبي المكشوف ، الذي بات بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان علنياً ومفضوحا، بل مستفزاً للكرامة الوطنية.
عبرت المعارضة عن موقفها بالتظاهرات التي تجاوزت بحشدها الهائل أي تقدير، ثم بالاعتصام الشعبي المستمر حتى اليوم والمؤكد لالتزامها بسلمية التحرك… ومبدأ الديموقراطية.
وها هي اليوم تمتحن قدراتها التمثيلية بالاضراب العام،
وفي كل هذه التحركات، التزمت قيادة المعارضة بالاصول الديموقراطية المعتمدة، مع توكيد ايمانها بالثوابت التي تلخصها الشعارات التي استوحاها صائب سلام من تجربته الطويلة في العمل السياسي، سواء في مواقع الحكم أو المعارضة: لبنان واحد لا لبنانان، لا غالب ولا مغلوب، التفهم والتفاهم… الخ.
مع ذلك تشن السلطة على المعارضة حملة تشهيرية هائلة، فلا تتورع عن اتهامها في وطنيتها وولائها للبنان… والبلد صغير، والكل يعرف الكل، وكل يعرف عن الآخر علاقاته و تحالفاته ، حتى لا نقول ارتباطاته ، مع انه من الصعب وصف صيغة ما هو قائم بين الحكومة البتراء والإدارة الأميركية مثلاً بأنه فعل صداقة .
? ? ?
من أسف ان مؤتمر باريس ,3 مهما كانت درجة نجاحه، ومهما وفر من القروض والمساعدات والهبات للحكومة القائمة، فهي ستظل بتراء، وستظل بعيدة عن ان تكون حكومة وحدة وطنية، وستظل خارجة على الوفاق الوطني.
ومن أسف ان مؤتمر باريس 3 قد يكون مناسبة محزنة لاظهار لبنان كأنه لبنانان متفارقان، ولتعميق الانقسام بدلا من ان يكون وسيلة لتوحيد هذا الكيان الذي يتبدى للخارج صلباً، لكن اللبنانيين يعرفون بالتجربة مدى هشاشته، خصوصاً ان توازناته الطائفية والمذهبية تجد في هذه اللحظة من يعمل على تحطيمها إنجاحاً للاحتلال الأميركي في العراق، وتمكيناً للاحتلال الإسرائيلي من دون ان يفرض شروطه على الفلسطينيين… والاحتلال هنا وهناك لاغ لحلم الدولة ووحدة الشعب والقرار الوطني المستقل.
ومضحك الادعاء ان الدعوة إلى الاضراب العام أعظم خطراً على وحدة لبنان وكيانه من هذا الحشد الدولي غير المسبوق الذي ينصر بعض لبنان على بعضه الآخر بذريعة استنقاذه من ديونه التي لا يمكن ان تحاسَب المعارضة عليها، بل يتحمل جريرتها من هو في السلطة اليوم، ومن يريد ان يبقى فيها وحده وبلا شريك.

Exit mobile version