طلال سلمان

شيراك عراق لبنان وابواب جحيم اميركي

علينا أن نسجل للرئيس الفرنسي جاك شيراك شجاعته في المبادرة إلى الاعتراف بالخطأ، ورفع صوته محذراً من جديد: »أعتقد أننا، بشكل أو بآخر، قد فتحنا في العراق أبواب جهنم، وأننا عاجزون عن إغلاقها. إن الوضع خطير ولا يتحسن..«.
وللأمانة فإن الرئيس الفرنسي كان، منذ بداية اتضاح الرغبة الأميركية في اجتياح العراق لاحتلاله، قد حذر من السقوط في الخطأ القاتل… لكن الإمبراطور الكوني الباحث عن انتصار سهل لم يكتف بتسفيه من كان حليفه المخلص بل هو تمادى في التشهير به وبفرنسا وألمانيا وسائر »أوروبا القديمة«، حتى كاد يصنفها جميعاً في خانة »الخصوم«… بل لقد شجع على مقاطعة الجبنة الفرنسية اللذيذة ونبيذها الشهي انتقاماً من شيراك ووزيره الشاعر الذي صار نجم المحافل الدولية و»بطلاً عربياً« دومينيك دو فيلبان.
… ها أبواب الجحيم مفتوحة على مصراعيها، في العراق، تلتهم الضحايا على مدار الساعة، بشراً وقيماً وعقائد وأفكاراً وأحلاماً.
فأخبار العراق شلالات من الدم تملأ صفحات الصحف، وتهطل عبر شاشات التلفزيون، حتى لقد بات الاحتلال الأميركي مرادفاً للجريمة، للقتل المجاني، للمجازر الجماعية، لاغتيال أحلام الأطفال، لتدمير المدارس والمستوصفات، لانتهاك حرمة المقدسات مساجد وكنائس ومقابر وأضرحة للأولياء من السابقين إلى الشهادة دفاعاً عن القيم التي بها آمنوا.
لقد تفوّق الاحتلال الأميركي على الاحتلال الإسرائيلي في وحشيته..
لقد فتح الاحتلال الأميركي أبواب الجحيم حقاً، فغذى نزعات التطرف جميعاً مسبغاً عليها قدراً من المشروعية، وحاول أن يضفي قدراً من الصدقية على النظريات ما دون العنصرية التي تبشّر بصراع الحضارات ونهاية التاريخ، والتي تبرّر بالتالي لحملة الشعار الإسلامي أن يردوا على ما يرونه »حرباً صليبية جديدة« بتكفير كل من يدعو إلى الحوار مع الغرب، وكذلك كل من يدعو إلى »المقاومة السلمية« بمقاطعة الاحتلال والامتناع عن التعاون معه، وخصوصاً مع من »يعيّنهم« ممثلين لإرادة العراقيين، من وراء ظهورهم وبمعزل عن آرائهم فيهم… لتخلو الساحة للذباحين من أتباع »أبي مصعب الزرقاوي«.
لقد فتح الاحتلال أبواب الجحيم حقاً، فأطلق كل غيلان التعصب والانغلاق ورفض الآخر، وجدد العداوة النائمة بين »الشرق« و»الغرب«، وبين »المسيحية الغربية« و»الإسلام القديم«، مبرراً مقولة أسامة بن لادن عن انقسام العالم إلى فسطاطين: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، والحرب بينهما إلى قيام الساعة.
لقد فتح الاحتلال الأميركي أبواب الجحيم حقاً، إذ دخل كالفيل إلى متحف التاريخ فحطم كل ما حفظه على امتداد القرون، وهكذا انسحقت فسيفساء التركيبة البشرية لهذه الأرض التي منها انطلقت الأديان والعقائد والأفكار والعلوم والفلسفات والتي حفظت أكثريتها أقلياتها العرقية والدينية… وهكذا أيضاً انفلتت الغرائز والأحقاد، واختلط الوطني بالديني والقومي بالعنصري منذرة بحمام من الدم غير مسبوق.
لقد فتح الاحتلال الأميركي أبواب الجحيم حقاً حين خلط بين المقاومة الوطنية والإرهاب، إرضاء لإسرائيل في فلسطين، وحين خلط بين الإسلام والإرهاب أخذاً بمنطق المحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية وصولاً إلى اعتماد منطق الحرب الصليبية في مواجهة »العالم القديم« وأهله من العرب والمسلمين.
… ومن أبواب الجحيم هذه تنطلق الآن عواصف الكراهية »للأميركي البشع« الذي يكاد يبيد شعباً عريقاً بذريعة تحريره، والذي يحاول أن يتحكّم بمصير الشعوب جميعاً بذريعة العمل لتحريرها من طغاتهم، وقد كانوا جميعاً أصدقاء مخلصين له ومعتمدين من طرفه يحظون بالرعاية حتى وهم يسحقون الطلائع الديموقراطية في بلادهم ويقطعون رؤوس العصاة ممّن يقولون بأن الدين لله والوطن للجميع.
إن الاحتلال هو الإرهاب الأعظم،
وها هو العراق يشيّع يومياً أشلاء العشرات، وأحياناً المئات، من بنيه، يستوي في ذلك ضحايا الغارات الجوية التي تشنها طائرات الاحتلال وضحايا القصف بمدافع دباباته، مع ضحايا السيارات الزرقاوية المفخخة..
فأعظم حليف للاحتلال الأميركي هم أمثال الزرقاوي وسائر الأبناء الروحيين لأسامة بن لادن وأيمن الظواهري…
إن الاحتلال يوفر المبرّر للإرهاب ومن ثم يوظفه لحسابه،
والاحتلال والإرهاب معاً يشتركان في ضرب المقاومة الوطنية وتشويهها، وفي ضرب الأحلام بالديموقراطية والسلام.
* * *
لقد أظهر الرئيس الفرنسي جاك شيراك شجاعة في مواجهة النزعة الإمبراطورية الأميركية التي تنكر على الشعوب حقوقها في اختيار أنماط حياتها وفي أن تتولى بنفسها بناء غدها وإسقاط الطاغية والفاسد من حكامها، ثم اعتماد الطريق الذي يناسب مستوى تطورها الثقافي والاجتماعي للوصول إلى الديموقراطية والتقدم.
ترى، لماذا يريد الرئيس شيراك وقد اكتشف هذه الحقائق المفجعة أن يُدخل لبنان أيضاً إلى الجحيم من البوابة الأميركية، بعدما لعب دوراً مشكوراً في منع إسرائيل من رميه فيه قبل سنوات معدودات، وعبر بوابة احتلالها الذي دام لاثنين وعشرين عاماً ودفع لبنان لإجلائه ثمناً باهظاً في الأرواح والمنشآت والبيوت وحقه في الحياة؟!
… ويتمنى اللبنانيون أن تكون »غضبة« الرئيس الفرنسي التي جعلته يحقق الغرض الأميركي باقتياد لبنان ومعه سوريا إلى مجلس الأمن، قبل أيام، قد هدأت، وأن يكون بصدد مراجعة موقفه بعدما تبدى واضحاً أن المستفيد الأول والأخير من هذه الغضبة سيكون هو هو من فتح أبواب الجحيم في العراق.

Exit mobile version