أسعد دائما بشباب من الجنسين يطرحون رؤاهم عن المستقبل ويناقشونها فيما بينهم أو في حضور رجال ونساء من أجيال منتصف العمر ورجال ونساء من جيل الكهولة. لم أنتظر أن تتفق الأجيال الممثلة في هذه الحوارات على رؤية واحدة أو حتى على رؤى متشابهة، ومن هنا تأتي متعة تنظيم هذه الحوارات والمشاركة فيها. تعلمت من حوارات سابقة في منتديات مماثلة كتلك التي نحن بصددها هذه الليلة أن المستقبل يعني للنساء أشياء تختلف عما يعنيه للرجال من نفس أعمار النساء المشاركات وربما للرجال عامة. المستقبل يعني أشياء متعددة ومتباينة لممثلي أجيال متعددة ومتباينة ويعني أشياء متعددة ومتباينة لممثلي فئات اجتماعية متعددة ومتباينة.
دعوت لحوار الليلة على ضوء أنباء ظلت تتواتر خلال الأيام القليلة الماضية عن معرض أقيم ولعله لا يزال مقيما في مدينة لوس أنجلوس عرضت فيه شركات ومراكز ومعاهد بحث وهيئات أكاديمية آخر ما أثمرته العقول الموظفة فيها من اختراعات وأفكار تمت إلى التكنولوجيا بشكل أو بآخر. أذهلني بعض هذه الثمار وصدمني بعض آخر. كنت أظن أنني وصلت إلى حد التشبع التكنولوجي وأن اختراعا جديدا لن يذهلني أو يصدمني، وها أنا في حال ذهول وتحت وقع الصدمة وبخاصة بعد أن أطلعني أصدقاء معنيون على عدد من الابتكارات الجديدة وما يمكن أن تعنيه بعد أيام أو شهور عندما يجري تداولها في ساحة البشرية وأزقتها.
في الكلمات القليلة التي قدمت بها موضوع الحوار والصديقين نادرة وزاهد أشرت بالإيجاز الممكن إلى أن البشرية تعيش مرحلة يصعب ابتكار صفة تناسبها. أقرب ما وجدته مناسبا كان التعثر. البشرية متعثرة، وأهم سبب لتعثرها هو هذا التراكم غير المنتظم لابتكارات الثورة التكنولوجية وإبداعاتها. البشرية متعثرة في مشيها ولا أقول مسيرتها فهي لعقود متتالية تتحرك بدون خطة مدروسة أو نحو هدف معلوم.
تفضل يا زاهد لتفتتح حوارا أرجو أن نتوصل من خلاله إلى صفة غير التعثر تناسب الحالة التي نعيشها هذه الأيام وعلاقتها بطوفان الابتكارات الحديثة وتفاصيل اللحظة التكنولوجية التي نمر فيها.
قال زاهد «أنا من جيل لن يذكره التاريخ بخير ولا بشر. أنا من جيل كانت بدايات كثير من أفراده في أنابيب وبإجراءات تخليق غير طبيعية قبل أن يخرجوا إلى الدنيا بعملية جراحية. أنا من جيل لم يعده أهله ولا معلموه أو أقرانه ليحمل رسالة أو يصحح وضعا. أنا من جيل لم يثق يوما بالطبقة التي تحكمه، حكومة وأحزابا والآن لا يثق بالمؤسسات، كل المؤسسات. لا يأمن للبنية القائمة سواء كانت تحتية أو فوقية، والمؤسسات من جهتها لا تحبه. هى الأخرى لا تثق به. هو بالنسبة لها عبد من عبيد التكنولوجيا، وأحيانا عميل. إن أحترم شيئا أو أحدا فهي طقوس استهلاك وتجديد منتجات التكنولوجيا، وإن أطاع فهي رغبات وتوجيهات وإرشادات منتجيها. أنا من جيل أغضب العائلة والقبيلة والدولة. ابحثوا معي عن مدينة في الغرب أو في الشرق تنعم في نهارها أو ليلها بالهدوء. جيلي غاضب وهو الآن في شوارع وميادين أوروبا والبرد قارس تغطي جسده في باريس سترة صفراء وفي مدن أخرى سحب قنابل الغاز. التكنولوجيا يا صديقتي خدعتنا حين أغرقتنا بابتكارات براقة لنحارب بها المؤسسات جميع وأعطت المؤسسات ابتكارات كافية لحرماننا من المشاركة. الابتكارات لم تكن من أجل مستقبل زاهر لنا. كانت لإلهائنا عنه».
سحبت الكلمة من زاهد وسلمتها لنادرة، صديقته ورفيقته في الحوار. شكرتني بايماءة من رأسها أطارت شعرها فانتظرنا عودته إلى حال استقرار مخطط ومدروس لتبدأ كلمتها. بدأت كلمتها بنظرة دارت بها على القاعة قبل أن تستقر عند زميلها وقالت «عرفتك يا زاهد طفلا غاضبا ومراهقا غاضبا والآن أراك رجلا غاضبا. سمعت من والدتك، الأم العظيمة، أنك رفضت تناول حليب رضاعتك من مصدر غير مصدره الطبيعي حتى يصيبك الجفاف فتحصل على السوائل إجبارا من مصادر هي أيضا غير طبيعية. عرفتك ترفض الجديد حتى تحصل عليه قسرا أو بعد أن يفقد جدته، في نظرك على الأقل. عرفت كثيرين مثلك بل ودرست أحوال مجتمعات ترفض ما ترفضه فتضطر بعد حين، وفي حالات معروفة كان هذا الحين يمتد قرونا، تضطر إلى تعاطيه بالعنف أو مركزا. قد يهون الأمر عليك، وعلى أمثالك، لو تعلمون أن البشرية لم تتوقف عن استخدام ابتكارات عباقرتها وصائدي الفرص منذ بدء الخليقة. الفرق الوحيد بين تلك الأيام البعيدة وأيامنا الراهنة أن الابتكارات كانت تأتي متدرجة وعلى فترات متباعدة بينما هي الآن تأتينا متراكمة أو مجتمعة فتصيبنا، كما قال الصديق مدير حوارنا في تقديم جلستنا، بالذهول والصدمة. تدرجت بين اختراع العجلة وابتداع البارود وابتكار الآلة الطابعة واكتشاف طاقة البخار فكانت الثورة الصناعية وعندها تباطأ التدرج وتكثفت الأعمال الإبداعية عددا وتأثيرا وتقلصت الفترات بين قمم الابتكار والخلق. تشبعت البشرية بالتكنولوجيا ولم تشبع. الإنسان بطبيعته نهم لا يرضيه القليل ولا يمتعه القديم. حاول يا صديقي العزيز الاقتناع بأن البشرية إن لم تستمر تجدد نفسها بابتكارات واختراعات فقدت حافز تقدمها وما هو إلا قليل وتفقد حافز وجودها».
أنهيت كلمتك يا نادرة بعبارة أتمنى أن نعود إليها في حوار الليلة وإلا ففي حوار قريب. ألمحت إلى خوفك على البشرية أن تفقد حافز وجودها لو توقفت عن تجديد نفسها. ماذا عن احتمال أن تفقد البشرية معنى وجودها من أساسه لو بالغت في تجديد نفسها. بالأمس قرأت مقالا في مطبوعة محترمة يطرح فكرة أن يأتي يوم تقرر فيه البشرية انتهاء وظيفتها وضرورة رحيلها قبل أن يزداد حالها سوءا وتتعدد كوارثها. الكلمة لك يا زاهد. سمعتك تهمس في أذن جارتك بأنك صرت تتألم وأنت تتنقل بين حالات حنين إلى تجربة أو فرصة أو لحظة سعادة. تفضل. حق الكلام عاد إليك. لم يتأخر زاهد عن الإمساك بالكلام فقال متوجها بنظرة إلى نادرة وأخرى إلى ناحيتي: «أراك كالعادة غير غاضبة. فالإغراق التكنولوجي يذيب التقاليد وهذا في حد ذاته أمر مرغوب لديك. قبل يومين كنا نناقش ما فعلته التكنولوجيا مع المراهقة السعودية رهف والقيم الحقوقية ومع الدولة السعودية والدول الإسلامية كافة. الدول التي تضررت لم تنطق احتجاجا أو رفضا. خروج من الفتاة على الأعراف وقواعد الدين كما يلقنونها في بلادها ونكوص في تايلاند عن إغضاب السعودية والأمم المتحدة تتدخل ضد رغبة السعودية أحد عظام مموليها، كل هذا وكثير غيره لأن الفتاة استطاعت التمترس في غرفتها بالفندق مع هاتفها الذكي ليحققا معا النصر التليد على قوى ومصالح دولية هائلة. يا نادرة أعرف موقفك وكثيرين غيرك من الشامتات والشامتين في الأعراف والتقاليد المنهزمة يوميا أمام زحف التكنولوجيا الذكية، ولكني أعرف أيضا أن البشرية تتمزق بين ماض كانت له هوية وشكل ومستقبل يرفض الإفصاح عن هويته وشكله».
توجهت إلى نادرة بسؤال لعله الآن على أطراف ألسنة عديدة، سألتها إن كانت بصفتها ناشطة في مجال حقوق المرأة توافق على ما أقدمت عليه رهف أجابت بطلب أن أسحب السؤال لأعيد صياغته منعا للقيل والقال. لم تنتظر نادرة السؤال في صيغة جديدة وإنما انطلقت تبرر انحيازها المبدئي «لكل جهد يبذل لرفع الغمامات عن العيون وكاتمات الصوت عن الآذان وحاجبات الجمال، جمال الخلق وإبداع الخالق. أنا أيضا مع الطائرة الدرون بشرط استخدامها في الخير، تنقل الإسعافات وتحرس الطرقات بالليل وتنظم المرور وتسلم لبيوتنا حاجتنا من متطلبات ومشتريات. طائرات بدون طيار لا تقتل الأبرياء ولا تتجسس على الناس في بيوتهم وأعمالهم ولا تتجول في سماوات المطارات العامة. أنا مع إبداعات تحميني وأسرتي ولست مع إبداعات تقتحم بيتي بدون استئذان. لست مع ابتكارات تفرض أن تشاركني الدولة في فراشي وتجلس معي أمام مكتبي وتكتب معي رسائل غرامي وتملي مقالاتي. أنا مع ابتكارات تزيد الإنتاج ونسب النمو ولست مع ابتكارات تعيد إلينا عهود الاستعمار والتوسع وهذه فيما يبدو يجرى إنتاجها بغزارة حتى الصين تستخدمها لتتوسع في غابات إفريقيا وأصقاع جرينلاند، أهي الإمبريالية في ثياب جديدة؟».
أرى الموقفين يتقاربان. يوافقني زاهد ويضيف بقوله «نعم فلبعض الابتكارات التكنولوجية فوائد مؤكدة كما في الصحة والمواصلات ووسائل الاتصال، ولكن دعونا لا ننسى حجم التخريب والدمار الذي تحدثه ابتكارات أخرى عديدة. دعونا أيضا لا نهمل فنتغافل عن دور التكنولوجيا الحديثة في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وفي تغليظ الفقر ونشره وتعميق محتواه وبث لغاته ولهجاته وفي زيادة القذارة وتفاقم الأزمة الناتجة عن تراكم مخلفات الأغنياء وعجز الحكومات والطبيعة عن التعامل معها. أخشى الاعتراف بأن هذه الثورة التكنولوجية في أحدث تجلياتها صارت السبب الأول في أزمة الفائض السكاني الرهيب. هل يعقل أن نعيش حتى نسمع من يسأل إن كانت البشرية تستحق الفناء، ولعلها تسعى إليه بالفعل وبخطى حثيثة وابتكارات تدمير وبعقول مخلقة معمليا ذكاؤها يتفوق على ذكاء عقول البشر».
لم أعد أرى طفلا يحبو إلا وسألت نفسي ومن حولي إن كنا بماضينا وحاضرنا مهدنا لهذا الطفل السبل نحو مستقبل آمن ورغد أم خلفنا له المعضلة التالية ليحلها. أيهما أفضل للبشرية أن تستمر أم تفني؟
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
