طلال سلمان

شوارع أثرت حياتي

أن تعيش العمر ممتنا لطفولة سعيدة، أن تقدر بأغلى المعايير صدفة أن تولد في عائلة ممتدة، أن تتعرف مبكرا على حضن الجدة والخالات وتذكره إلى نهاية المشوار وكأنه حدث بالأمس، أن تتعود على ذوق متميز فيما يقدم لك من طعام وشراب، أن تحبو وتمشي على أربع وتركض وتسافر مطمئنا إلى أن عيونا أو قلوبا لا تفارقك، أن تتغذى عروقك على دفقات متواصلة من حب غامر، أن تحيا، تنام وتصحو، على ذكر المشربية التي من فتحات جوانبها تعرفت مبكرا جدا على حقيقة أن هناك حيوات أخرى غير حياة بيتي وعائلتي، أن تستمتع بالصخب، صخب الدق المتواصل على النحاس،  وكأنه إيقاع موسيقي لا يمل، أن تكون واثقا وأنت تقترب من نهاية المشوار، وأنا بالفعل واثق، أنه بدون العلاقة بهذا الشارع، شارع أمير الجيوش الجواني، ما كنت هذا الطفل والمراهق ولا كنت هذا الشاب والشقيق والرجل والزوج والأب والصديق والدبلوماسي والكاتب الصحفي، ما كنت هذا الإنسان.

***

أشهد للأفلام السينمائية المصرية بالفضل أنها قدمتني لشارع آخر عزيز وكريم. كنا، وكنت مراهقا ثم شابا، نقضي أمسية الخميس من كل أسبوع في إحدى دور السينما الصيفية، وكانت كثيرة في الحي الذي احتفى بي مراهقا وشابا. هناك، في كل مرة يظهر فيها على الشاشة شارع بعينه، كنت لا أخفي انبهاري. يظهر رجل يقود سيارة فاخرة تمشي الهوينا وإلى جانبه أو في أحضانه فتاة تغني والنسيم “يطاير” خصلات شعرها. الشارع خال من السيارات إلا سيارة البطل والبطلة والرصيف خال من المارة على امتداد مدة الأغنية. الأشجار أراد المخرج منها أن تتمايل مع اللحن فتمايلت. راح خيالي يصور لي أن الشارع حقيقة، النيل الذي أحببت حقيقة والأشجار المتمايلة حقيقة والفتاة حقيقة والنسيم حقيقة واللحن حقيقة، فقط السيارة  الأمريكاني الفاخرة هي المرفوضة من خيالي الخصب. أعترف أن هذا الخيال وهذا المشهد المتكرر في الأفلام المصرية وحكايات “شارع الجبلاية” كانوا جميعا من أدوات تأهيلي لإدارة بعض أهم المراحل العاطفية في مستقبل حياتي، كانوا دائما جزءا من خلفية هذا المستقبل.

***

غريب أمر الشوارع. تشترك في سبب وجودها ولم تشترك في كل وظائفها. ظهرت إلى الوجود تلبية لطلب من العجلة فور اختراعها. وانتهت تلبي طلبات من أطراف ومصالح عديدة منها طلب من شبان وشابات أن يكون في المدينة شارع  لهم ولهن. كنت في الصين عندما قرروا توسيع أهم شارع في العاصمة ليؤدي بكفاءة نادرة وظائف محددة. اتسع لينقل ما لا يقل عن مليون دراجة هوائية ذهابا وإيابا تحمل في أيامها العادية موظفين ووزراء وتلاميذ وعمال رجالا ونساء. لا أبالغ في شهادتي حين أقول إن المارة مثلي كانوا يقفون انبهارا بهذا الحشد المليوني الذي لا يصدر عنه  خلال مروره في الشارع العريض الطويل صوت، أي صوت.

ذات صباح وقفنا نراقب هذا المشهد الصامت. التفت لي نزار قباني زميلي في العمل منتظرا تقريري، قلت أرى برودا يعكسه هذا الصمت الرهيب. قال أما أنا فمصاب بخيبة أمل. يا صديقي ولا مرة واحدة خلال مراقبتي وقع نظري على أنثى تنظر في اتجاه رجل أو على رجل يختلس نظرة في اتجاه أنثى. إنه طوفان بشري لا يعرف الحب وربما لم يسمع عنه.

***

تركت نزار في بكين لأنفذ قرار نقلي إلى إيطاليا. مرت سنوات غير قليلة قبل أن أعود إلى بكين ضمن فريق صحفي من الأهرام. كم وددت على امتداد أيام زيارتي أن يكون معي نزار ليرى بعينيه ما رأيت فيستعيد الثقة بالأمل. وجدت رموز الحب في كل مكان، وجدتها في الشارع نفسه وفي الحديقة العامة المطلة عليه. رأيت فتيات بشعر طويل مسدل حتى صدورهن  و”جونلات” فوق الركبة، رأيت الفتية في بزات أنيقة وأحذية جلدية لامعة. اختفي الزي الموحد وعدت أستطيع التمييز عن بعد بين الفتاة والفتي. عاد الحب.

***

من شارع في الصين إلى نقيضه في إيطاليا. وصلت وسمعة ما أسموه بالحياة الحلوة في روما تتردد في كافة عواصم أوروبا وعالم الفن في أمريكا.  يجسد هذه السمعة ويغذيها شارع حمل اسم “فيا فينيتو”. هناك وحول موائد مقهى أو آخر عقدت صفقات فنية وانبثقت علاقات عاطفية وتهدمت علاقات عائلية ورسخت علاقات صداقة وعمل ورسمت خيوط مؤامرات مخابراتية وتبودلت معلومات دبلوماسية. استفدت شخصيا. كنت بمعنى أو آخر وفي حين أو آخر تلميذا مجتهدا فالأنشطة في هذا الشارع أغلبها جديد على شاب لم يتجاوز الثالثة وعشرين من العمر، شاب قادم لتوه من شارع في الصين صامت وبارد. قررت مخطئا، من بين الكثير من قراراتي، أن الشارع، أي شارع، يمكن أن يكون مدرسة إذا توفرت له أسباب جعلت من “فيا فينيتو” قبلة ومدرسة وجامعة ومعهد علاقات عامة ومركزا للسينما في آن. هنأت نفسي بما تعلمت منه وجنيت وبما تفاديت وتجنبت. عدت إلى روما بعد بسنوات أبلغت أصدقاء قبل وصولي رغبتي في أن نلتقي في ضاحية أوستيا على بعد عشرين كيلومترا من العاصمة، أبعد موقع عن “فيا فينيتو” يمكن أن نلتقي فيه. حجتي وقد صارت عقيدة أن لا أعود إلى مكان حملت له تقديرا أو عاطفة ورسمت له صورة ذهنية أخاف أن تتأثر بتغير طرأ عليه أو على أهله وعمائره.

***

زرت باريس وأقمت عامدا الإقامة حول “الشانزليزيه” الشارع الأسطورة الذي حاولت مدن كثيرة في العالم صنع مثله. حاولوا في تونس وحاولنا في مصر عندما خططنا وهندسنا شارع جامعة الدول العربية ليتوسط حي المهندسين. عشت فيه ما يقارب نصف القرن حتى يوم خان عهوده حين سمح ليد التطوير أن تمتد إلى أشجاره فتقتلعها وإلى هندسته فتشوهها.

زرت في باريس شارعا آخر. زرت “فوبور سانت أونوري” الشارع الأحب لأثرياء العالم القديم وأرستقراطيته العتيقة. رأيت فيه، وكنت في صحبة واحد منهم، ما لم أحلم يوما باقتنائه أو أقوى على إهدائه.

***

المدن شوارع. ارتحت في مدن شيدت في الشوارع لسكانها وزوارها “كنبات” حجرية. شهدت بالكفاءة لمن أمر في شارع زرته بتعليق لوحة على كل شجرة تسجل تاريخ ميلادها وأصالة عرقها.

الشارع في النهاية شهادة حسن سير وسلوك ومستودع حكايات وبصمة ولاء لوطن.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version