هو يوم للحزن الوطني الجارف على الشهيد الذي يستعصي على الغياب كما يستعصي على الاحتكار وتزييف الهوية، والذي من باب العروبة وهو هو باب الوحدة الوطنية دخل إلى السياسة والحكم، وعلى باب الوحدة الوطنية يقف اليوم بجلال الشهادة يقاوم الفتنة ويحمي بدمه الذي غدا منارة لبنان الوطن القضية.
فرفيق الحريري الذي كان واحداً في حياته سيبقى واحداً في الوجدان وهو شهيد، لا يمكن طمس صورته أو تحريفها مهما تعددت الأغراض ومحاولات التوظيف السياسي التي تكاد تبدّل وجه لبنان ودوره وهويته.
فأما الجريمة فكانت مهولة بحيث شكلت مفصلاً خطيراً ليس في التاريخ السياسي لهذا الوطن الصغير فحسب، بل إنها سرّعت التحولات الهائلة التي تشهدها منطقتنا العربية فتبدل فيها بما يتعارض مع مصالح أهلها المغلوبين على أمرهم بسبب من فرقتهم وافتقادهم وحدة الهدف بما أغرى بهم الأجنبي فجاء الاحتلال الأميركي للعراق يدعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ويفضح العجز العربي المهين الذي لا يجد ما يداري به فضيحته غير اللجوء إلى الفتنة بحيث يغرق الوطن بدماء بنيه.
بين الأصل والصورة، التي يُراد تعميمها اليوم، مسافة ضوئية، حتى يبدو الأمر وكأنه خطة محكمة لاستيلاد رفيق حريري آخر غير الذي عاش معنا وعشنا معه نتابع تجربته الشجاعة بالصح والغلط والقدرة على التصحيح..
وأجد نفسي وأنا بين من يدّعون المعرفة عن قرب لشخص رفيق الحريري قبل الحكم وفيه، وبعد انتقاله إلى المعارضة ومعها، أراجع سجل العلاقة الممتدة لأكثر من ثلاث وعشرين سنة، بين أواخر 1982 وحتى اللقاء الأخير ليل الأحد في الثالث عشر من شباط ,2005 أكثر إيماناً بأنه عاش حتى النفس الأخير في صورته الواحدة: منسجماً مع قناعاته الثابتة، معتزاً بانتمائه العربي، فخوراً بغير تباه بإنجازه الوطني.
أستذكر صورة رفيق الحريري المقاتل (بداية) ضد اتفاق الإذعان مع العدو الإسرائيلي (17 أيار 1983) حتى أمكن إسقاط ذلك الاتفاق السيئ الذكر..
وأستذكر صورة رفيق الحريري وجهده المؤثر في عقد مؤتمر جنيف للمصالحة الوطنية، أواخر العام ,1993 وقد كنت قريباً من المؤتمرين، ومن العاملين خلف الصورة… وقد كان أبو بهاء أبرزهم وأنشطهم وأكثرهم حركة وحرصاً على نجاح هذا المؤتمر الذي تم فيه تثبيت هوية لبنان العربية، مرة والى الأبد.
وأستذكر صورة رفيق الحريري في مؤتمر لوزان للمصالحة الوطنية، في ربيع ,1984 ودوره الحيوي في محاولة إنقاذ ما كان مستحيلاً إنقاذه من مهمة المؤتمر، نتيجة التحجر في مواقف بل عقول بعض من في قمة السلطة آنذاك، والإصرار على حماية نظام ثبت سقوطه أو عجزه عن الاستمرار..
أستذكر صورة رفيق الحريري في مؤتمر الطائف الذي كان بمثابة ساعة الحقيقة لإعلان الوفاة، شرعاً، للنظام القديم، والذي تبنى مجموعة مقترحات للتغيير كانت تجد جذورها في برنامج الحركة الوطنية للإصلاح، ثم في مؤتمرات الحوار المتعددة، كما في مشروع الاتفاق الثلاثي، حتى أمكن استخلاص الدروس والعبر، وإدراجها بشيء من التسرع في اتفاق الطائف.
وعندما دخل رفيق الحريري سرايا الحكم في أواخر العام 1992 كان مؤهلاً بما يكفي من التجارب التي عرّفته بالقوى والأشخاص والبرامج، بحيث أمكنه مفاجأتهم جميعاً بمشروعه الطموح لإعادة بناء لبنان بعدما ترسخت قاعدة نظامه السياسي بحماية سورية معلنة حظيت آنذاك برعاية دولية شاملة..
أعرف الرجل الذي وقف أمام الرئيس الراحل حافظ الأسد ليصارحه: أنا كوطني وكقومي عربي لا يمكن إلا أن أكون مع سوريا، ولكنني أكون ناكراً للجميل إن أنا فرّطت بالعلاقة مع السعودية التي لها عليّ فضل عظيم..
وأعرف تماماً الرجل الذي كان يدرك الضيق الذي تعيشه سوريا في ظل حصار جدي وإن كان غير معلن فتبرع بأن يكون وزير الخارجية الممتاز ورجل المهمات الدقيقة التي تخدم سوريا، على المستوى الدولي.
وكانت علاقته الحميمة والاستثنائية في فعاليتها مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك من الركائز التي ساعدته على النجاح، دولياً، فنجح بحيث أصبح بحق رجل العرب الدولي الذي تُفتح له أبواب القصور وسرايات الحكم في مشارق الأرض ومغاربها..
ولعل ذلك كله بين أسباب النجاح الباهر الذي تحقق للمقاومة ممثلة ب حزب الله في انتزاعها الاعتراف الدولي بشرعيتها أي بحقها في قتال العدو الإسرائيلي طالما استمر محتلاً ولو لشبر من الأرض الوطنية… وإذا كان لشخصية الرئيس حافظ الأسد بحنكته وتجربته العريضة دور أساسي في هذا الإنجاز، فذلك لا يقلل أبداً من الدور المؤثر الذي لعبه الثلاثي نبيه بري ورفيق الحريري وفارس بويز، ومن خلفهم الرئيس الراحل الياس الهراوي حتى تحقق هذا الإنجاز الوطني القومي المهم.
? ? ?
هائلة كانت الجريمة، بوحشيتها، ثم باستهدافها رجل الغد ، وأخيراً بنتائجها التي اصطنعت للبنان تاريخاً جديداً: إذ أجبرت الجيش السوري على الخروج من لبنان بطريقة غير لائقة، بل مهينة، وفتحت جروحاً خطيرة في الجسد اللبناني المنهك، مما أفسح في المجال أمام تدخل دولي غير محدود، شمل السياسة والأمن والاقتصاد والمجتمع.
كان بديهياً أن تتوجه أصابع الاتهام إلى سوريا، بداية لأنها كانت المسؤولة عن لبنان كله، بسياساته وسياسييه، بأمن مجتمعه وأمن أفراده، بدوره في منطقته وفي العالم… فكيف يمكن تحييدها حتى لا نقول تبرئتها من المسؤولية عن هذه الجريمة التي كان لا بد أن تبدّل في الطبيعة الأخوية للعلاقات اللبنانية السورية، فتدفعها إلى حافة القطيعة، مع نشر جو عدائي امتد إلى جذور الأخوة بين الشعبين الشقيقين والشريكين في المصالح والأهداف والمصير؟!
… وكان هناك من هو جاهز لتوظيف الجريمة لنقل لبنان من نهج سياسي إلى نهج سياسي مناقض بل مضاد، مستغلاً اللحظة السياسية المثقلة بنتائج الاحتلال الأميركي للعراق، وبرفض إسرائيل (ومعها الإسناد الأميركي المفتوح) لأية تسوية ولو مجحفة مع السلطة الفلسطينية التي يأخذ عليها كثيرون أنها تنازلت عما لا يجوز التنازل عنه، ومع ذلك فهي لم تحصل إلا على الخيبة التي شقّت الفلسطينيين ودفعت بهم على طريق الاقتتال، بينما عدوهم الإسرائيلي يواصل قضم الأرض بالمصادرة والمستعمرات وجدار الفصل العنصري.
كانت الجريمة مهولة، وهي سمحت بردود فعل تتجاوز حدود المتوقع أو المعقول.
وكانت قوى كثيرة طالما وقفت معادية لرفيق الحريري ومشروعه الطموح، جاهزة لاستثمار الجريمة في تغيير مسار لبنان السياسي، ومحاصرة سوريا بالاتهام، وإدانة من هو في موقع الحليف أو الصديق معها بتهمة التستر على الجريمة ومحاولة حرف مسار التحقيق الدولي..
وعبر الاستثمار المفتوح لهذه الجريمة الفظيعة وتداعياتها السياسية (والاقتصادية)، برزت توجهات خطرة لم تكن مقبولة في أي يوم، ولكنها الآن تبرّر نفسها بالثأر لدم فيق الحريري، وبمحاسبة قتلة رفيق الحريري..
وعبر هذا الاستثمار المفتوح اصطنعت لرفيق الحريري صورة بل صور ما كان ليقبلها مطلقاً، خصوصاً وقد أعطوه وهم خصومه الذين قاتلوه حاكماً وتخلوا عنه معارضاً بعض ملامحهم، هو الذي يعلن جهاراً أنه يرفض أن يستقبل بعضهم في بيته.
وفي أحيان كثيرة اصطنعوا لرفيق الحريري صورة هي نقيض الأصل تماماً.. واستغلوا الشهادة لتوظيفها ضد الشهيد بفكره وخطه ونهجه ومعتقداته، كما استغلوا أخطاء النظام السوري ومكابرته ومحاولات التنصل من المسؤولية لتعميق العداء بين الشعبين الشقيقين.
وكان بديهياً أن يتم التركيز على المقاومة ومحاصرتها بتهمة الولاء لسوريا لإضعافها والإيحاء بأنها قصّرت، بل الوصول إلى حد اتهامها بالتواطؤ على دماء رفيق الحريري إذا ما طالبت بالتدقيق في طبيعة المحكمة ذات الطابع الدولي وتوفير الإجماع الوطني حولها بما يمنع استثمار الخارج لها لأغراضه التي لا تمت إلى العدالة بصلة، ولا هي تستهدف الوصول إلى الحقيقة، بقدر ما تهدف إلى شق صفوف من كانوا متحالفين على قاعدة من تراث رفيق الحريري الوطني.
وفي جو محتدم، بالنزعة إلى الثأر، وبالضغوط الدولية لتسريح المقاومة، لا سيما بعد صمودها العظيم في الحرب الإسرائيلية على لبنان، كان سهلاً تحويل موجة الاعتراض العنيف على الدور السوري في لبنان بنتائجه المفجعة إلى الدعوة للتخلي عن المقاومة، ثم إلى التشكيك بأهدافها، وصولاً إلى تحميلها هي لا إسرائيل المسؤولية عن الدمار الذي أصاب لبنان في إنسانه وعمرانه نتيجة الحرب الإسرائيلية عليه.
وكانت الدول، وتحت قيادة الإدارة الأميركية، تلعب دوراً مكشوفاً في التحريض على المقاومة، لا سيما بعد قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701 الذي امتنع عن إدانة إسرائيل بحربها وحمّل المقاومة مسؤولية انتهاك الخط الأزرق وأوفد بضعة آلاف من جنود اليونيفيل الى الجنوب ليكونوا رديفاً للجيش اللبناني الذي عاد إلى أرضه ودوره بعد غياب طويل..
في هذا الجو المحتدم شجر الخلاف الذي أسقط التحالف الرباعي وفجّر أزمة حكومية ما تزال مستمرة حتى الساعة.
وعبر الاستخدام المكشوف للتحقيق الدولي، المفتوح بعد والذي لا موعد نهائياً لاختتامه، وكذلك عبر استغلال الخلاف حول المحكمة ذات الطابع الدولي، وعبر الإفادة من بعض أخطاء القراءة السياسية وسوء توقيت التحرك، أمكن تعبئة الجو بكل ما يلزم لتحويل الخلاف السياسي إلى مشروع فتنة بين المسلمين في لبنان.
اليوم، ونحن نمشي بأحزاننا المتراكمة إلى ضريح الشهيد رفيق الحريري الذي غدا مزاراً في قلب بيروت، نشعر به يطل علينا من عليائه ليصرخ بنا: ماذا تفعلون بي وبلبنان؟
إن رفيق الحريري الذي دخل الحكم من باب الوطنية والعروبة، والذي أخلص في دعم المقاومة، وأبلغ السيد حسن نصر الله أنه يغبطه على دوره وعلى ثبات إيمانه بعد استشهاد نجله هادي في سياق معركة التحرير،
رفيق الحريري الذي عمل طوال عمره للوحدة الوطنية في لبنان وتعزيز دوره العربي، وكان بحق رجل العرب الدولي ،
إن رفيق الحريري الشهيد لا يمكن أن يكون نقيض رفيق الحريري في سعيه لتعزيز كرامة لبنان بوحدة شعبه وخطط النهوض الاقتصادي.
فلتكن ذكرى استشهاد رفيق الحريري مناسبة للوقوف في وجه الفتنة، التي ستكون أقسى على رفيق الحريري من اغتياله ثانية… كما ستكون نهاية لبنان الذي عمل رفيق الحريري لإعادة بنائه حتى يكون نموذجاً يحتذى به في الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي بتعزيز إرادة استقلاله بهويته الأصلية.