طلال سلمان

شهداء يودون صلاة جمعة

أدى الشهداء صلاة الجمعة في بغداد »جماعة«، أمس.. بينما تفرّق من لم تتسع لهم جوامع عاصمة الرشيد على المساجد في أم قصر والناصرية وسوق الشيوخ وكربلاء والسماوة والنجف والقرى ومضارب البدو التي في الجوار.
لم تعد الصواريخ بعيدة المدى والقذائف ذات الأطنان إلى قواعدها سالمة… لقد تشظت وتفجرت حتى كان لكل مصلّ منها نصيب! ولم يذهب الأطفال إلى مدارسهم، فالمدارس غدت مقابر، ولم تتبقّ بيوت ليعود إليها أهلها أو بعض أهلها. لقد وزعت قيادة العدوان الموت بالعدل والقسطاس على الفقراء وأبناء السبيل والناس الطيبين الذين كانوا يسعون إلى رزقهم. جنرالات القتل ملتزمون بحقوق الإنسان: لكل فرد من الموت نصيب، رجلاً كان أو امرأة، طفلاً أو شيخاً أو فتية تلتمع عيونهم بنور الغد.
للأيام جميعاً ملامح الشهداء في العراق الآن. لقد باتت أياماً فلسطينية بأدق التفاصيل…
خارج بغداد، في العواصم والمدن والقصبات العربية المتناثرة على امتداد الوطن العربي التائه بين الوهم والحلم، وحده يوم الجمعة هو »الموعد« لتأكيد الحضور.
أيام الأسبوع الأخرى مدى زمني مفتوح بلا فواصل، يتمدّد فوق شاشة تلفزيونية تتسع لثلاثمئة مليون عربي، تتوالى فوقها جميعاً، الرسمية منها والعربية المزورة والأجنبية المستعربة والأميركية المتنكرة بثياب القطاع الخاص، الصورة المتكررة للمشاهد عينها في عرض متواصل لا تختلف فيه إلا نبرة المراسلين والمراسلات المعَسْكرين الآن بالاضطرار.
للمدن الجريح الملامح ذاتها يحددها مجرى الفرات وإرادة الحياة عند باب الصحراء، والإصرار على حفظ التاريخ والتقدم بالإنجاز نحو المستقبل: في القلب المنشآت الجديدة، مبان لبعض الفروع الجامعية، دوائر حكومية، مستشفيات، وعلى الأطراف بعض المصانع والمعسكرات، وحيثما التفتّ تطالعك المآذن والقباب المرقشة بالفيروز والبلور، وثمة كنائس أيضاً، مبنية بالآجر ومناراتها ذات الصلبان تطاول السحاب في البصرة التي كانت جميلة المدائن فرموا وجهها بماء النار لأنهم يكرهون الجمال!
الأيام العربية بلا أسماء: هي فقط ما قبل الجمعة وما بين الجمعتين.
أما يوم الجمعة فهو الموعد المحدد نفسه بنفسه: صلاة الجمعة هي الزمان والمكان. يتقاطر الناس، كباراً ورجالاً وشباناً وفتية يافعين إلى الجوامع باعتبارها نقاط التجمع للانطلاق من أجل توكيد الذات، توكيد الحضور، توكيد الرغبة في عمل شيء… فلا يؤكدون إلا القدرة المعطلة عن الفعل.
من الرباط إلى صنعاء، ومن الخرطوم إلى المنامة، يتقاطر »الذكور« إلى الجوامع، فلا تمنعهم قوة مكافحة الشغب من الدخول، ولكنها تبلغهم أنها في انتظارهم عند الخروج من حرم المسجد إلى الشارع. فالشارع ملكية خاصة للحاكم وليس مشاعاً تسرح فيه الدهماء وتمرح.
مع تفجّر أرض العراق بدماء الشهداء، إضافة إلى فلسطين ومعها، بات مستحيلاً ضبط الشارع بقوات الأمن المركزي والمباحث والمخابرات، مهما بلغ عديدها.
ما الحل، إذن؟!
سرعان ما ابتدع دهاقنة التجسس على النوايا الحل البسيط إلى حد البداهة: »نشارك في التظاهرات ونتصدر صفوفها. قبل أن يهتفوا بشعاراتهم نسبق بشعاراتنا الملتبسة! وقبل أن يرفعوا صور الشهداء نرفع صور الرؤساء! وقبل أن يملأوا الشارع بلافتاتهم نملأه بلافتاتنا، ثم نعزز كل ذلك بالعلم الوطني الذي لا يمكن أن يفكر أحد بإهانته أو بتقديم الأعلام الأخرى عليه، فإذا التظاهرة قد غدت من أسباب قوة الحكم وجماهيريته واستجابته لمطالب شعبه«!
الحرب بالتظاهرات هيّنة.. بل إنها ممتعة!
في بلاد أبطال العدوان يتظاهر الناس ضد حكامهم، آملين أن يسقطوهم ديموقراطياً، وبالإرادة الشعبية، إن لم يكن اليوم ففي الانتخابات المقبلة..
أما في بلادنا فماذا يمنع من تزوير الغضب الذي دفع الناس إلى الشارع بمصادرة التظاهرة و»تجييرها« لصالح النظام؟!
ثم… ما الخطر، وأخطر الاحزاب المعارضة لا يتجاوز عديده المئات بينهم عشرات من المباحث المعروفين، بينما حزب الحاكم يعد بالملايين، وهو ينتشر من الحدود الى الحدود »يأكل« من مال الدولة ولا يعمل (أقله لها) فلماذا لا يفرض على (تتمة المنشور ص 1)
أعضائه ان يمارسوا رياضة المشي والهتاف بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع؟! انه بذلك يربح الجنتين: جنة الحياة الدنيا وجنة النعيم الأبدي.
ما الخطر ووجهاء المعارضات يختلفون على كل شيء، قبل التظاهرة وبعدها، وفيها على وجه الخصوص: من يتصدره؟ من يتقدم من؟ أي الاعلام في المقدمة؟ أي الاعلام هو الأعلى؟
ما الخطر والشعارات مطلقة، سواء أكانت للعراق أم لفلسطين، وأغلبها موجه الى الخالق عز وجل، أو الى الرسول العربي (تحت تسمية »الحبيب«..)!؟
ماذا في هتاف من نوع: بالروح والدم نفديك يا شهيد؟! (او يا عراق، أو يا فلسطين)؟!
لولا شيء من التورع لأمكن اتهام أصحابه بالنفاق: من افتدى من؟!
ولأن »التظاهرات« تنتهي بالانفضاض وعودة المخلصين الى بيوتهم متعبين من المشي في الفراغ السياسي، فهي لا تترك أثراً ولا تبدل قدراً، ولا تقدم للناس أملاً باحتمال التغيير…
والأهم: انها لا تمنع عدواناً على العراق، ولا توقف عدواناً على فلسطين!
المأساة ان التظاهرة صارت هي الحدث بذاتها، لا بوصفها تمهيداً لحدث أو مقدمة أو وعداً بالحدث الجلل.
لا يعني هذا الكلام تسفيه مبدأ التظاهر، أو المس بوطنية المتظاهرين، في بيروت أو في سائر العواصم العربية… ولكنه محاولة لتظهير بؤس حياتنا السياسية الخاوية أو المفرغة من السياسة، حتى الاشتباك مع رجال الشرطة هو اشتباك مع الذات.
وليس العيب في المخيلة التي لا تبدع شعارات جذابة، بل العيب في ان قوى المعارضات السياسية لا تجد غير صلاة الجمعة مناسبة »مشروعة« للتجمع، ومن ثم للانطلاق في تظاهرات الاعتراض على الحاكم في الداخل والعدو الآتي من الخارج.
إن الدعوات الصالحات وحدها لا تسقط صواريخ القتل والتدمير الشامل.
والصلوات الجماعية لا توقف مذبحة كل قذيفة من قذائفها أكبر من الطفل الذي تقتله، والجراح التي تخلفها في جسد العراق (أو فلسطين) أوسع من ان يتسع لها جسد التظاهرة التي لا يملك المشاركون فيها غير إيمانهم وحماستهم ولوعتهم التي يفاقمها عجزهم عن الفعل.
على ان تظاهرات صلاة الجمعة هذه، تؤكد حضور الجمهور، في انتظار حضور قيادته الموثوقة ليتقدم حثيثاً نحو أهدافه التي يعرفها جيداً.
ثم ان هذه التظاهرات، على »تنوع« جماهيرها قد أسقطت في من وما أسقطت »الأنبياء الكذبة« و»القادة الضالين والمضللين« والشعارات الخادعة ومنها قسمة العالم الى »فسطاطين«، ممن شكلوا لفترة طويلة الوجه الآخر لجورج بوش، ووفروا له الفرصة لأن يزوّر حقيقته فيتبدى في صورة الضحية، بينما هو، من قبل ومن بعد، عدو الشعوب الطامع بفرض هيمنته على العالم… وبالنار والقتل والتدمير حتى إبادة المعترضين!
كل الأيام العربية الآن جراح. لكن يوم الجمعة ببغداد جاء أمس مضرجاً بالقداسة، فاكتسب الملامح المباركة لكل الذين تناثرت أجسادهم وروداً حمراء على جانبي دجلة، بينما الورود الحمراء ترتفع يوماً بعد يوم على طول مجرى الفرات.
أرض السواد كانت، أرض الشهداء تكون.

Exit mobile version