طلال سلمان

شمس الانتفاضة تشرق في عامها الثالث الانتفاضة والسلطة و11 أيلول: مراجعة أولية

تدخل الانتفاضة عامها الثالث وهي مثقلة بأعباء جسيمة، بعضها من صنع الخارج والتداعيات المنطقية لمرحلة ما بعد تفجيرات 11 أيلول 2001، لكن أخطرها يبقى وليد الواقع السياسي الفلسطيني الداخلي، تستوي في ذلك ممارسات سلطة الحكم الذاتي او »تكتيكات« فصائل المعارضة والاعتراض، بمن فيها بعض قيادات »فتح« التي غادرت الموقع الرسمي حرصا على موقعها القيادي في قلب حركة شعبها.
أما »الخارج« العربي والذي واكب انطلاقتها بحماسة شعبية ملحوظة فقد شغلته عنها هموم مستجدة تتهدد العديد من الانظمة والكيانات السياسية، بعضها من النتائج المباشرة لتفجيرات 11 أيلول وتركيز الاتهام بالمسؤولية عنها على أطراف »عربية« و»إسلامية« تجاوزت الاشخاص والتنظيمات او الشبكات السرية لتصيب عائلات حاكمة ومؤسسات ومناهج تدريس وأنماط حياة بل وحتى الودائع والحسابات المصرفية لحكومات وشركات وأشخاص.
هذا قبل ان يطغى هم »الحرب الاميركية« على العراق على كل ما عداه من هموم، وكلها ثقيل، فيدفع بالانتفاضة وأخبارها الى الخلف، لتخفف الانظمة من ضغط »جماهيرها« عليها، ولتجد لنفسها العذر للانشغال بهموم حاضرها ومستقبلها وتأمين الحماية لذاتها في وجه هذه العاصفة الاميركية الهوجاء التي لا تقيم وزنا للصداقات والعلاقات التاريخية، وليست على استعداد لمناقشة أي اعتراض او لقبول أي نصيحة من أي »حليف«.
* * *
شهدت السنة الاولى من الانتفاضة بدايات حالة نهوض عربي تمثلت في عودة »الجمهور« الى الشارع، وفي انكفاء الانظمة الى موقع دفاعي ضعيف، وفي محاولة التكفير عن نقص العمل والمساندة الفعلية المؤثرة بالتبرعات المالية والتقديمات العينية التي تبارى في المزايدة فيها أبناء الأسر الحاكمة وأثرياء المقاولات وأبطال صفقات السلاح مع المواطنين البسطاء الذين قدموا مهور عرائسهم وحصيلة عرق الجبين وخبز الغد.
وعلى الصعيد السياسي الدولي، والموقف الاميركي تحديدا، أسهمت مناخات الاحباط السابقة على تفجر الانتفاضة في دفع الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون الى بذل محاولات محمومة جعلته »يعتقل« ياسر عرفات ويستضيف رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك ايهود باراك لأيام طويلة في منتجع كامب ديفيد، من أجل إنجاز اتفاق فلسطيني اسرائيلي تاريخي يتوّج به رئاسته ويقوده الى جائزة نوبل للسلام، فضلا عن حفظ دور مرجعي لنفسه، في الشؤون الدولية عموما والاميركية خصوصا، وتأمين الفوز لزوجته بمقعد في الكونغرس عن ولاية نيويورك.
وبرغم فشل مفاوضات المعتقل في كامب ديفيد فقد استمر كلينتون يحاول إغراء عرفات بالتنازل، فلما فشل ارتد عليه يتهمه ويدينه ويحمّله مسؤولية إهدار فرصة تاريخية لحل مقبول.
بالمقابل كانت موجة التطرف في الشارع الاسرائيلي تتعاظم فتجرف في طريقها أي جهد يبذل من أجل تسوية مقبولة… ولقد ركب ارييل شارون هذه الموجة فاقتحم حرم المسجد الاقصى في القدس، وكانت تلك هي الشرارة التي فجرت الانتفاضة ولكنها وفرت له، في الوقت نفسه، الفرصة لاكتساح صفوف منافسيه من صقور الليكود، بمن فيهم نتنياهو، وهكذا وصل الى رئاسة الحكومة على سلّم من جماجم الفلسطينيين… في حين كان كلينتون يخلي البيت الابيض لرئيس جديد قليل الخبرة بالأحوال الدولية، ومحاط بعصبة من أصحاب المصالح العظمى (شركات النفط، شركات التقنيات الحديثة الخ) الذين تشدهم روابط وثيقة الى اللوبي الاسرائيلي شديد التأثير على دوائر القرار في واشنطن.
وحين وقعت تفجيرات 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن كان المسرح معداً لانقلاب خطير يأخذ الولايات المتحدة الاميركية بشخص رئيسها محدود الثقافة والمعرفة بالعالم الى »حرب صليبية« كما زل به لسانه، تستهدف أول (وآخر؟) من تستهدف العرب والمسلمين.
وكانت تلك فرصة قدرية لآرييل شارون كي يعقد الحلف الشيطاني بين حرب جورج بوش الصليبية وحربه العنصرية ضد الفلسطينيين، وعبرهم ضد عموم العرب المناصرين لهم (والمسلمين) مقدماً ياسر عرفات في صورة أسامة بن لادن ومقدماً اسرائيل في صورة »البرج الاميركي الثالث« الذي استهدفه »الارهابيون« أنفسهم الذين فجّروا البرجين في نيويورك.
* * *
بقدر ما كانت السنة الاولى من الانتفاضة الشعبية المجيدة في فلسطين (أيلول 2000 أيلول 2001) سنة إنجاز على مختلف المستويات، فإن السنة الثانية قد شهدت مجموعة من الانتكاسات السياسية المترافقة مع الهجوم العسكري الكاسح والمتواصل والذي أسقط كل الاتفاقات وكل الحصانات وكل الضمانات المفترضة… فإذا »السلطة« تتهاوى وتفقد الكثير من شرعيتها وتفصم عرى التكامل مع الانتفاضة كحركة اعتراض شعبي على الاحتلال الاسرائيلي، وكمظهر من مظاهر المقاومة التي قد تلجأ الى السلاح أحيانا وبالاضطرار، وقد يفرض عليها ضغط الحصار اللجوء الى أساليب غير مألوفة او غير مستساغة دائما، كالعمليات الاستشهادية التي تستهدف المحتل، جنديا كان او مستوطنا يغصب الارض ويشرّد أهلها الى برد اللجوء وثلج المنفى.
وفي واقع الامر فإن سلطة الحكم الذاتي قد أخذها الرعب مع تفجيرات 11 أيلول، فارتبكت أيما ارتباك، وتجاوزت حدود التبرع بالدم لضحايا مركز التجارة الدولية، في حركة استعراضية هزلية، الى محاولة التبرؤ من أي عنف ومن أي مسلح، مما أخذ يوسّع الفجوة بينها وبين جمهورها، ويزيد من الاشكالات والالتباسات بينها وبين المنظمات الشعبية وفصائل المقاومة بما فيها »قاعدتها« حركة فتح.
ومع استمرار الهجوم الاسرائيلي سياسيا على السلطة، وميدانيا وبأقصى درجات العنف على المدن والقرى ومخيمات اللجوء الفلسطيني، كانت السلطة تتابع تراجعاتها مرتدة الى موقع دفاعي هش، متسببة بالاذى العظيم للانتفاضة..
وبلغ الهجوم السياسي الاسرائيلي ذروته حين تبنت إدارة جورج بوش اتهامات أرييل شارون للسلطة الفلسطينية بالفساد المالي والاداري وانعدام الديموقراطية في مؤسساتها واحتكار عرفات القرار وتفرده ودكتاتوريته الطاغية.
صارت بيانات تنصل السلطة من العمليات الاستشهادية يومية، ثم زادت على الاستنكار والشجب الإدانة، ثم تجاوزت الإدانة الى الإصرار على محاسبة التنظيمات التي تتبنى العمليات واعتقال بعض رموزها.
كان هم »السلطة« ان تظهر »استقلالها« عن الانتفاضة وبراءتها من أي مظهر من مظاهر المقاومة المسلحة تحديدا، فكان ان ألحقت أبلغ الأضرار بذاتها كما بالانتفاضة والقضية.
كذلك فإن قبول السلطة بكل الاتهامات التي وجهتها اليها إدارة جورج بوش متبنية مقولات ارييل شارون، زاد من ضعفها: كيف تدافع عن سلطة تقر بأنها فاسدة الذمة والادارة، تهدر المال العام، وبأنها دكتاتورية تمنع الديموقراطية عن شعبها، ومؤسساتها المنتخبة شكلية لان القرار يحتكره فرد واحد لا شريك له ولا بديل منه؟
ثم ارتكبت السلطة سلسلة من الاخطاء المميتة لاستنقاذ رأسها، أخطرها انها ارتضت ان تتحول الى ما يشبه قوة قمع تعمل في خدمة المحتل، فأقدمت بناء على أوامر اسرائيلية، تبنتها الادارة الاميركية على اعتقال قياديين متميزين (أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية ورفاقه) وان تسلمهم الى سجانين أميركيين وبريطانيين يشرفون على استمرار حبسهم في سجن أريحا…
كما انها أقدمت على الموافقة على نفي مجموعات من المناضلين الفلسطينيين الذين كانوا قد اعتصموا خلال الاجتياح الاسرائيلي الاول لمدن الضفة الغربية وقراها (آذار نيسان أيار 2001) في كنيسة المهد ببيت لحم. وكانت صور أولئك المناضلين وهم يوزعون على المنافي في أربع رياح الارض، إهانة جارحة لكل عربي، وضربة قاضية على معنويات السلطة وعلى شرعيتها، الى حد كبير.
وبتأثير من قمة المهادنة والانحناء للعاصفة التي انعقدت في بيروت أواخر آذار 2002 اندفعت السلطة مشاركة في سياق التنازلات حتى لم يعد في يدها ما تساوم عليه، مفترضة انها بذلك قد أنقذت رأسها من سيف الانتقام الاميركي فحيّدت جورج بوش او هي أحرجته بما يضمن ان يتولى إيقاف هجوم شارون عليها لإسقاطها.
* * *
تقضي الامانة بأن نتعرض بالمناقشة، ايضا، لممارسات التنظيمات والفصائل الفلسطينية المعارضة او المعترضة على تصرفات السلطة ولو من داخلها (كما حالة فتح، مثلا).
ويمكن القول بغير تردد ان هذه المنظمات، خارج السلطة، لم تقدّر خطورة التحولات التي طرأت على المزاج الشعبي، في العالم كله بما في ذلك الوطن العربي، فضلا عما طرأ على السياسات من تبدل، في ما يتصل بالعمليات الاستشهادية.
لعلها استهانت بحجم الرعب الذي اجتاح الكرة الارضية كلها بعد تفجيرات 11 أيلول، ثم بعد خروج الولايات المتحدة الى الحرب، مستفزة، مستنفرة طاقاتها الهائلة وشبكة تحالفاتها، متفردة في قرارها، مانعة النقاش حول حقها في اجتياح أي بلد واعتقال أي شخص او مجموعة أشخاص في أي مكان، متجاوزة كل القوانين والشرائع والمواثيق والمنظمات الدولية..
ولعلها استهانت ايضا بعمق التحالف بل التوحد في الموقف بين إدارة بوش وحكومة شارون.
ولعل تلك المنظمات لم تنتبه الى »الاسقاط« الاتوماتيكي الذي يربط بين ضحايا العمليات الاستشهادية داخل الارض المحتلة وبين ضحايا تفجيرات 11 أيلول المستبشعة والمستنكرة من الجميع، لا سيما حين يكون هؤلاء الضحايا من »المدنيين«، وبينهم نساء وأطفال.
كذلك فإن بعض هذه العمليات أوحت وكأن الغرض السياسي (الداخلي) منها أهم من نتائجها على جبهة العدو الاسرائيلي.
وفي لحظات تبدى وكأن بعض العمليات تتم في سياق الصراع مع السلطة على السلطة أكثر مما في الصراع مع العدو بالوسائل المتيسرة.
كانت الاتهامات الاميركية الاسرائيلية للسلطة قد فتحت الباب واسعا أمام الطامحين الى الوراثة، من داخل هذه السلطة.
وكان ارتباك السلطة وافتقادها القدرة على القرار، وتهافتها أمام »العروض« الاميركية، وارتكاباتها بحق المناضلين، وانعدام حيلتها في مواجهة العزلة العربية التي فرضت عليها، يطرح احتمالات التغيير جديا، وبالتالي يطرح مسألة »الوراثة« وشرعية الجدير بالوراثة على بساط البحث.
في الوقت ذاته أعطت تفجيرات 11 أيلول العذر للأنظمة العربية، ليس فقط للخروج من فلسطين، بل للتنصل من الانتفاضة وما تفرضه من التزامات، ومن التنظيمات والفصائل المقاتلة وما تحمله الصلة بها من شبهة… وهكذا تبرأت من أي علاقة سياسية، وضيّقت عليها مجال حركتها، وامتنعت ليس فقط عن مساعدتها ماليا، بل منعت وصول أرصدة التبرعات التي جُمعت لها وباسمها من الوصول اليها في فلسطين…
ثم جاء الرعب من الحرب الاميركية على العراق عذرا للتنصل من فلسطين، سلطة وانتفاضة وشعبا وقضية.
* * *
برغم هذا كله، فقد جددت فلسطين انتفاضتها في الأيام القليلة الماضية، عبر التظاهرات الليلية التي خرج فيها الرجال والشبان والفتية والأمهات والصبايا بالصدور العارية لفك الحصار عن مقر عرفات في رام الله.
كان على الانتفاضة ان تجدد نفسها بنفسها، فأتمت ما عليها،
وها هي وحشية شارون تربك أخيرا إدارة جورج بوش فتضطره الى ترك مجلس الأمن يتخذ قرارا باهتا بفك الحصار الاسرائيلي، ولو جزئيا، وبالسماح لنور الشمس والهواء بالوصول الى رام الله.
وقد تكون الانتفاضة الضحية الاولى للحرب الاميركية على العراق،
ولكن فلسطين تبقى القضية، من قبل ومن بعد.

Exit mobile version