طلال سلمان

شعب الخليويين

مسكين الشعب اللبناني بذكوره والإناث، فهو مضغوط في وقته ليل نهار، حتى ليتعذر عليه التمتع بساعة راحة واحدة!
إن اللبناني الفرد لا يجد فرصة للتنفس إلا بين مخابرة هاتفية وأخرى.
إن لعنة ثورة الاتصالات التي ألغت الحدود وقصّرت المسافات بين الأمم تطارده فتحرمه هناءة النوم وهدأة الوحدة والرغبة في الخلو إلى ذاته واستعادة صفاء ذهنه!
إن المسؤوليات والارتباطات تطارده الآن حيثما كان.
من قبلُ كان يستطيع الادعاء أن طالبيه لم يجدوه لأنه كان في ناحية لا هاتف بها، أو أن سكرتيرته لم تبلغه، أو أنه رد الاتصال فوجد خط طالبه مشغولاً، أو أن هاتفه معطل، أو أن الخط »لم يعلق«، إلى آخر ما في جعبة المعتذرين فعلاً، أو المتهربين من حيل شرعية أو مموهة، بحيث تبدو وكأنها شرعية.
الآن سقط ذلك كله: فالهاتف صار إصبعاً سادساً في اليد، لا يفارقها ولا هي تفارقه، أو أنه صار جزءاً لا يتجزأ من أذنه تبدو من دونه عارية وباردة وبلا معنى لأنها فقدت وظيفتها.
لكأنما لهذا الهاتف العجيب عين سحرية تطارده حتى تجده ولو كان في الحمام، أو عند الطبيب، أو في موعد غرامي اجتهد في التستر عليه حتى لا تخدش سمعة العائلة!
بل إن هذا الهاتف الحسن التدريب يكمن له أحياناً عند باب المقهى، أو في السيارة، وينغص عليه فرصة التلذذ بطعام غدائه، أويفسد عليه لقاء »بيزنس« مهمّا..
ومن يجِئْ إلى بيروت لأول مرة، ولم يكن له سابق اتصال مع أهلها، يحسبْ أن اللبناني مخلوق مشوه بالولادة، إذ إن يده تبدو كتعاء، ملتصقة بأذنه دائماً، كما قد يصنفه في خانة الثرثارين لأنه لا يصمت أبداً؛ فإذا ما توقف لسانه تحدثت عيناه أو هدرت ضحكته أو انفلت رأسه يهتز ويهتز بلا توقف وكأنه فقد السيطرة عليه.
ثم إن هذا الوافد العزيز قد يؤخذ بانشغال اللبناني (واللبنانية) طيلة الوقت، فيخرج بانطباع مفاده أن اللبنانيين مشغولون أربعاً وعشرين ساعة على أربع وعشرين.
… وان اللبنانيين عموماً مهمون إلى أقصى حدود الأهمية بدليل أنهم ينقسمون إلى طالب أو مطلوب، آناء الليل وأطراف النهار، وأنهم معنيون باكتشاف مصادر جديدة للوقت، أو تأمين النجاح لفكرة مط الساعة، وربما فكروا بالتفاوض مع الشمس لتعديل مواقيت الشروق والغياب، بحيث لا تنصرف إلا بإذنهم وبعدما ينهون ما هم فيه.
لقد كان لبنان رائداً على امتداد ستة ملايين سنة من تاريخه.
وهو، وإن كان الأخير في الأخذ بالخليوي، فإنه مؤهل لأن يأتي بما لم يستطعه الأوائل… وسنرى!

 

أسعد جرمانوس: المارونية السياسية بين الفخر والقهر

كثيرة هي المطاعن التي يمكن توجيهها الى كتب تؤرخ لفئات من دون غيرها، في مجتمع معين.
أول المطاعن واخطرها ينبعان ويتصلان بالانتقائية وبالاجزاء وبقطع السياق.
ففي منطقتنا العربية هذه، ولا سيما المشرق العربي، وبالاخص لبنان، يصعب وضع حد فاصل بين جهة واخرى، بين دين وآخر، وبالتالي بين طائفة (او مذهب) واخرى… ذلك ان الناس قد تقلبوا بين الاديان والمذاهب والطوائف، ولم يستقروا على الحال الذي نعرفه اليوم إلا في منتصف القرن الماضي!
الشيخ اسعد جرمانوس اختار السياسة مدخلا الى الحديث عن اصول المارونية وجذور الحريات اللبنانية، محدداً موقفه منذ البداية: »المارونية السياسية كلمة فخر أُريد بها قهر…«.
من الصعب مناقشة العواطف، فاذا ما تداخلت مع السياسة صارت اقرب الى »العقيدة«، واستحال الحوار. والمارونية السياسية بالنسبة الى اسعد جرمانوس عقيدة، وسر التاريخ، ومصدر المجد، ومنبت الشعور بالتفوق والمباهاة.
بعض السذاجة ضروري لتجاوز المباذل السياسية او الاخطاء او الخطايا او الهنات الهينات.
كتاب الشيخ اسعد يتذبذب بين ان يكون تأريخاً للطائفة، او تبريرا ايديولوجيا من منطلق تاريخي للنظام السياسي القائم… وعلى هذا فهو يبدأ بتاريخ وصول الموارنة الى لبنان، وينتهي بتمجيد ابطال المارونية السياسية.
يقول في تصدير كتابه: »لم يكن لمار مارون اي علاقة بالمارونية السياسية، وحتى بجبل لبنان، فهو »راهب وقديس«، كما قال عنه معاصره القديس يوحنا فم الذهب. وُلد وعاش في منطقة كورس من اعمال انطاكية. لا نعلم تاريخ ولادته، ويُقدّر انه توفي نحو سنة 410م، اي قبل مئتي سنة تقريباً من دخول المارونية الى جبل لبنان.
عاش زاهدا متقشفا على قمة جبل بجوار انطاكية، ولم يأت يوما الى لبنان«؟!
ربما. ما مغارة الراهب على العاصي، قرب الهرمل اذاً؟!
اما الموارنة فهم يتحدرون من اكثر من عرق: »… من التمازج المتحاب الى حد الحرب، او المتحارب الى حد الحب بين الموارنة والدروز، بوصفهم من مكونات جبل لبنان، فإن رمزها الاعظم هو فخر الدين المعني الثاني، رائد الحضارة اللبنانية… ولا يهم هنا ان يكون المؤسس للمارونية السياسية درزيا »فهذا فخر كبير لها وللحضارة اللبنانية«
ثم ان »ما يسمونه المارونية السياسية« قهرا، هي حركة تاريخية، لكنها موضوع فخر لا قهر، اذ انها اساس هذه الحرية والديموقراطية النادرة في تاريخ البقعة من الارض. ويمكن القول ان أعلام المارونية السياسية، ما عدا مار يوحنا مارون، ليسوا من الموارنة«.
وهو يحتسب رياض الصلح بين اقطاب المارونية السياسية.
»ان السنّي رياض الصلح حقق حلم المارونية السياسية الذي طالما سعت إليه منذ مار يوحنا حتى عهد فخر الدين، وحاولت ايجاده عبثا ايام المتصرفية والانتداب، وهو الاستقلال التام الناجز«.
وهو لا ينسى، في الفصل الاخير، ان يقدم شارل مالك بوصفه احد اركان المارونية السياسية.
لكن البطل القائد المؤسس هو الامير فخر الدين.
والشيخ اسعد جرمانوس يحفظ عنه وله كل ما قاله وقيل فيه، وهو يبدو معجبا حتى بزجل فخر الدين، وهو لذا استشهد بأكثر من »قرادية« للامير الذي لم ينتظر الإنصاف من غيره، فقال في نفسه ما لم يقله احد فيه… ومن ذلك حسب استشهادات جرمانوس:
»بلادي عن حبها ما لي غنى
هي بعيني أغلى شي بالدني
شعبي ان جمعته من أقوى الشعوب
يهز بعزمه عرش السلطني«
يبدو ان الشيخ اسعد جرمانوس هو ايضا من متذوقي الزجل ومن ناظميه.
ويبدو انه مثل الرحابنة قد اختار ان يدخل الى لبنان الحرية من مدخل المارونية السياسية، وهي تقدم نفسها بأفضل صورة عبر الزجل.
من الحكايات التي اختارها الشيخ اسعد جرمانوس من قلب بحر التاريخ، ننقل عنه هذه الواقعة التي ذكر انها جرت في يوم الاثنين، ثاني محرم، 707ه 1307م، عندما هاجم »اقوش« جبل لبنان:
من طرائف »الوحدة الوطنية« التي تضمنها الكتاب، وهي عديدة فيه، اخترنا هذه: في العام 1811م./1226ه. قام راغب باشا، باشا حلب، على دروز الجبل الأعلى، وكلف طوبال آغا بإبادتهم، وبالرغم من مقاومتهم قتل منهم1800 شخص، واحرق قراهم.
فأرسلوا يستغيثون بالامير بشير الثاني الذي كتب الى باشا حلب والى باشا الشام، »واستخلص الدروز المذكورين واحضرهم الى بلادهم ووجه اليهم مئتي كيس لاجل معيشتهم«.
وقد وجه الشيخ بشير جنبلاط والشيخ امين ابو صعب مع الخيالة الى بادية الشام لحمايتهم في الطريق، وقد وصل منهم اربعمئة عائلة الى جبل لبنان وقطنوا في جميع انحاء الجبل.
وكل عائلة درزية تحمل اسم »الحلبي« حتى الآن هي منهم.
ونذكر اخيراً، وليس آخراً، ما قاله احد الكتاب اللبنانيين عن دروز لبنان، وذلك عام 1873م. بعد الحوادث الدامية التي حصلت: »وبعد ذلك ساد السكون والراحة والالفة بينهم وبين ابناء الجبل المسيحيين، فأصبحوا جميعا اخوة في الوطن، كما في الزمان القديم«.

 

أخاف عليك من الوضوح

أتعلّم منك، وأستمد منك القوة.
أبحر في عينيك الرائقتين إلى دنيا كنت أتمنى ولوجها، لكنّ ضعفي كان يعجزني فيبقيني أسير حسرتي عند بابها العالي.
أسمع بصوتك الكلمات التي كنت أتمنى أن أقولها، أن أشهرها لأسقط بها ترددي، ولأحمي بها إرادتي وحلمي.
أحبكِ أكثر.
أحبكِ حين تلومين، وحين ترفضين، وحين ترسمين الحدود القاطعة بين ما تريدين وما لا تقبلينه من الغير.
أحسك أكبر.
تتعالين أمام ناظرَي وتهبط إليك السماوات، وتكتسب أفكارك نبرة الأنبياء.
أعرف أن الغد أقوى من الأمس، ولكنني قادر الآن، وأنت تأخذين بيدي، أن أعيش حالة انتصار طالما اشتهيته وأقعدني افتقاد القرار عن بلوغه.
أخاف عليك من الوضوح.
فالزيف طوفان يكتسح الناس والأفكار والقيم والأمكنة.
ومَن عز عليه التلطي بالزيف دخل قوقعة جبنه الأخرس تاركاً لعينيه أن تقولا ما لا يسمعه إلا الشهداء.
يرفعك الوضوح إلى الحافة: بين الإبهار والاحتراق، فيزداد خوفي عليك حتى يكاد يشلني فأعجز عن اللحاق بك في سموك.
أتطاول لكي أبقى في مدارك..
وأستقوي بحبك..
فأستقيم جداراً يصد عنك الريح، بينما تدور يدي على ورودك بالماء تستقيها لتتفتح بشميم الغد العطر.

 

العودة إلى الكرخ

ما زال الصوت يرن في أذني مثقلاً بأحزان التجربة المرة، مشعاً بالأمل والثقة بالقدرة على تخطي الصعب واختراق المستحيلات وصولاً إلى بغداد.
صار اللقاء بين عربيين مباراة في إثبات أيهما الأكثر بؤساً، أيهما الأعظم يأساً، أيهما الغريب في وطنه، وأيهما المغرَّب عنه وطنه.
انقطع الحوار بين العرب. صاروا إذا جلس بعضهم إلى بعض انطلق كل منهم في مناجاة ذاتية، في نواح منفرد، في تأملات واستعادة لأحلام شخصية لا يهتم لها الآخر كثيراً لأنه مشغول بمثلها لنفسه، وفي بلده المنكوب أيضاً.
تتحدث عن وجعك فتسمع صرخة الألم من مُجالسك، لا من باب التعاطف معك، ولكن لأنك حرّكت مواجعه، ثم تراه يهون عليك ما أنت فيه لأن ما هو فيه أخطر وأدهى.
ولقد كان هاني الفكيكي يجيء، بين الفينة والأخرى، من منفاه في لندن إلى بيروت ودمشق، عله يحظى ببعض نسائم بغداد، أو يقصد أحياناً شمال العراق عله يستشرف من على البعد مآذن الأعظمية، أو يلمح طيف الكرخ، أو يجيئه صدى »الجبوري« مضمخاً بالأحزان الكربلائية المعتّقة، والتي أضيف إليها الأفظع والأوجع الآن..
كان يعرف أن الطريق طويلة، وأن الرحلة قد تذهب بالقاصد، ولكنه كان مصراً على متابعة الجهد إلى أقصى مدى ممكن…
وككل منفي مسهد بعذابات البعد، كان هاني الفكيكي يطير بأحلامه، مع خبر مؤمل، ثم ينتكس ولكنه لا يسلم بالهزيمة وطي الموضوع، مع دفق الأخبار التي تشير إلى انسداد الأفق وغياب القدرة على التغيير.
… ها هو هاني الفكيكي الآن في بغداد، برغم كل قرارات المنع.
لقد قضى »أبو حيدر« في لندن، ودفن في جوار السيدة زينب بدمشق، لكنه، قطعاً، يحوم في جنبات بغداد، يملأ صدره من عبق وردها، ويشرب فلا يرتوي من ماء دجلتها، ويتفقد مَن تبقى من رفاق العمر، وما حفظته الأمكنة من ذكريات الزمن الجميل.
والرحلة نحو بغداد مستمرة، مهما بعدت المنافي وطال الطريق بالمنفيين فيها أو إلى خارجها.
لكِ سلام العائدين يا دار السلام!

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أن تحب هو أن تكتمل لا أن تعوّض نقصاً فيك. الاكتمال إضافة اما التعويض فإظهار للنقص. الحب ليس عكازاً ولا هو نظارة مكبرة لعينين كليلتين. الحب هو النور لا المصباح، العطر لا ساق الزهرة والحلم وليس الوسادة.
قلت: لكأنك تجعل الحب إعجازاً..
قال »نسمة« بلهجة المشفق: ألا ترى أنك من آلاف الأشخاص تختار واحداً فقط لتخصه (أو ليخصك) بتلك الصفة الأثيرة والاستثنائية والخطيرة، فتقول له وحده ومن دون الغير »يا حبيبي«؟!

Exit mobile version