طلال سلمان

شرق اوسط موسع مشروع ايزنهاور بطبعة جديدة

انتهت الإدارة الأميركية، إذن، من صياغة مشروعها الجديد لاستتباع منطقة »الشرق الأوسط الموسع« والتي تشمل إضافة إلى »العالم العربي« محيطه الإسلامي القريب (إيران وتركيا وصولاً إلى باكستان…)، مع تمييز واضح لإسرائيل فيه.
وينص المشروع على إعادة صياغة شاملة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، لمجمل دول هذا »الشرق الأوسط الموسع« بهدف الحفاظ على المصالح الأميركية (والحلفاء؟) وتغيير الأنظمة فيه، مع استثناء النظام الديموقراطي الوحيد فيه والقائم في إسرائيل بنسختها الشارونية الحالية ودورها الإقليمي المتعاظم.
ولسوف تسعى الإدارة الأميركية إلى »فرض« مشروعها الجديد ديموقراطياً على مجموعة الدول الثماني خلال قمتها الدورية والتي ستعقد بضيافتها في »سي إيلاند« بولاية جورجيا خلال شهر حزيران المقبل… مع التنويه بأنها لم تستشرها فيه، كما أنها وهذا بديهي لم تطلع الدول المعنية، ولا سيما العربية منها، لا فرق بين من منحته مرتبة »الحليف الاستراتيجي« و»الصديق القديم« والملتحق حديثاً أو »المحايد« أو المصلت على دولته سيف الانتقام بقانون المحاسبة وعقوباته غير المحدودة (جريدة الحياة 13 شباط).
وكما في سوابق عديدة، فإن »الرؤية« لإدارة جورج بوش، وأما الأعباء فعلى أوروبا، والدول »القديمة« منها على وجه الخصوص… وأما الدول أو الشعوب المعنية فليس عليها إلا الخضوع لوصاية مطلقة تشمل مختلف نواحي حياتها، بدءاً من برامج التعليم في المدارس الابتدائية إلى »تحرير المرأة«، فإلى إعادة صياغة اقتصادياتها وتنمية المصالح المشتركة في ما بينها، وصولاً إلى التدريب على الديموقراطية واستخدام الكومبيوتر وتشجيع المطالعة وإعادة النظر بالبرامج التلفزيونية وربما بالقيافة، لباساً ونماذج الشوارب واللحى والعمائم ولون حطات وسماكة »العقال«…
وفي هذا السياق فقد استخدم المشروع الأميركي الجديد للهيمنة على المنطقة (العربية خصوصاً) التقريرين السنويين (2002 2003) لبرنامج التنمية المستدامة التابع للأمم المتحدة حول الأوضاع العامة في الوطن العربي، عبر انتقائية مغرضة ومفضوحة، كمطالعتين اتهاميتين تؤكدان قصور العرب ومجافاتهم لروح العصر واحتياجهم إلى وصاية مطلقة تبدل جذرياً نمط حياتهم في بيوتهم وفي مدارسهم وسلوكهم في الشارع وفي المقاهي وصولاً إلى سرايات الحكم وعلاقات الحاكم بالمحكوم… ثم ضم إليهم المسلمين في إيران وتركيا وباكستان، بغير سند مماثل!
* * *
بداية، يمكن القول إن المشروع الجديد هو طبعة منقحة ومزيدة من مشاريع الهيمنة الأميركية على المنطقة والتي باشرت واشنطن العمل لفرضها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي كان هدفها المعلن »وراثة الاستعمار القديم« الذي كان يترنح تحت وطأة هزيمة »أوروبا القديمة« في تلك الحرب، وبفعل تعاظم ضغط الحركات الوطنية التي وجدت في تلك الهزيمة فرصة تاريخية لاستكمال استقلال أقطارها.
ولقد تبلورت خطة الوراثة الأميركية للاستعمار القديم، بداية، في »حلف الدفاع المشترك« الذي اشتهر تحت اسم »حلف بغداد« والذي سقط بفعل ثورة 14 تموز في العراق، وتصاعد المد القومي الذي كان أنجز تحت قيادة جمال عبد الناصر »دولة الوحدة« بين مصر وسوريا قبل خمسة شهور من انفجار بغداد بثورتها التي طهّرتها من ذلك الحلف (الذي تحاشى مخططوه أن يضموا إليه إسرائيل، مفترضين فيه أنه سيشكل حماية إضافية معززة لمشروعها التوسعي في المنطقة).
وكان بين ذرى ذلك المجهود الأميركي لوراثة الاستعمار القديم الموقف الصارم الذي اتخذته إدارة إيزنهاور من العدوان الثلاثي على مصر، الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، في العام 1956، والذي كانت ذريعته المعلنة إقدام عبد الناصر على تأميم قناة السويس، (وقد اتخذه عبد الناصر، للمناسبة، كرد مباشر على سحب الإدارة الأميركية عرضها لتمويل السد العالي في مصر)…
بعد ذلك مباشرة تقدم إيزنهاور بمشروعه لملء الفراغ، والذي حمل اسمه، وكان يستهدف احتواء المنطقة بدولها عموماً ضمن دائرة الهيمنة الأميركية، وبذريعة حماية العرب والمسلمين من »الخطر الشيوعي« الذي سوف يحرّضه الفراغ الناجم عن طرد »الاستعمار القديم« على التقدم للسيطرة على المنطقة باعتبار الاتحاد السوفياتي »نصير الشعوب والداعم الأعظم لحركات التحرر« في مختلف أرجاء الكون.
على أن المشروع الجديد يختلف في أمور جوهرية معظمها ناجم عن حالة الانحطاط العربي الشامل وعن تعاظم القوة الإسرائيلية التي مكّنتها من إحداث اختراقات واسعة في الجسد العربي المتهالك… ويمكن في هذه العجالة الاكتفاء بالملاحظات الأولية التالية:
أولاً ان المشروع الجديد يلغي أي ذكر للعرب كعرب، فلا يميزهم في جغرافيتهم، ولا يقر لهم بهوية واحدة واستطراداً بالحق في ان يحلموا بمستقبل واحد.. ولو تحت هيمنته!
ثانياً ان المشروع قد اعتمد توسيع مداه الجغرافي و»خلط« الهويات بقصد »تنسيب« إسرائيل شرعياً وبلا تحفظ إلى هذه المنطقة، متجاوزاً »فلسطين« بالكامل، سواء عبر وضعها الراهن أو عبر »رؤية جورج بوش« لمستقبل حقها في »دولة«، وفق »خريطة الطريق« التي سحبتها إدارته من التداول تاركة لأرييل شارون ان يقرر مصير الأرض والشعب في فلسطين خلف أو أمام جدار الفصل العنصري.
ثالثاً ان المشروع الجديد لا يكتفي بإلغاء »العرب« بل هو »يقسم« المسلمين فيمنح بعضهم بركة الانخراط في هذا المشروع ويمنعها عن الآخرين.
رابعاً ان المشروع الذي يعطي الأميركيين الهيمنة المطلقة على هذا الشرق الأوسط الموسع، يفرض على »أوروبا القديمة« ان
تقوم بإعداد هذه الشعوب المتخلفة وتدريبها وتمويل عمليات التحول فيها (وعلى نفقتها) لكي تسلمها في النتيجة إلى »دائرة النفوذ الأميركية« جاهزة تماماً، بغير تكاليف وبغير مخاطرات.
ان الإدارة الأميركية تستكمل عبر هذا المشروع ما بدأته في حربها لاحتلال العراق: ان لها القرار المطلق على الحلفاء القدامى ان يتخلوا عن طموحهم إلى الشراكة وأن يكتفوا بشرف المشاركة في التنفيذ، حتى لو اقتضى الأمر الموت، من أجل الامبراطور الأميركي الذي لا يرفض له طلب.
انه مشروع يُسقط العرب من جغرافيتهم بعد اسقاطهم من التاريخ.
وهو مشروع يستكمل نفي الهوية القومية لهذه المنطقة بحيث لا يعود ممكناً اعتبار إسرائيل جسماً غريباً وطارئاً عليها.
ثم إنه مشروع يهدف إلى فرض وصاية أبدية على بضع مئات من ملايين الناس (أكثريتهم الساحقة إسلامية وأكثرية الأكثرية عربية) بذريعة انه إنما يسعى إلى »تحضيرهم« وإعدادهم بالاحتلال لكي يعرفوا الديموقراطية وينعموا بالثقافة (!!) والرفاه الاقتصادي.
ومن أسف ان »العرب« لن يستطيعوا الرد عليه، بإعلان الثورة، أو بإسقاطه من قبل ان يقوم على أرض الواقع، حتى لو صدقت البشائر التي جاءتنا من تونس بأن القمة العربية ستعقد فيها فعلاً في اليومين الأخيرين من آذار المقبل، وقبل شهرين فقط من طرح هذا المشروع على الأوروبيين لكي يموّلوه ويباشروا العمل لتنفيذه فوق أرضنا التي… لم تعد لنا!

Exit mobile version