طلال سلمان

شارعان لا يحميان دولة

يستعيد اللبنانيون، هذه الأيام، الذكريات السوداء لحروبهم الأهلية المتداخلة فما تكاد تنتهي واحدة منها إلا وقد مهدت أو رمت البذور للحرب التالية التي ستكون وفق نظرية النشوء والارتقاء!! أشد عنفاً وشراسة مما سبقها.
فجأة، ينقلب هذا الشعب إلى مجموعات بشرية متنافرة، غير قابلة للانصهار في دولة واحدة، بحيث ان كل مجموعة منها تستشعر قدراً من الظلم أو الغبن وتتهم طائفة أو أخرى أو طوائف محددة بأنها تهيمن على مركز القرار، وتتحايل لمنع تحقيق الشراكة ، فتبقي غيرها في موقع هامشي مما يعزز لدى هذا الغير الجنوح إلى الاعتراض فالرفض لينتهي بالثورة مهدداً بسقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
فجأة، أيضاً، تتهاوى المؤسسات فلا تصمد لتكون المرجع الصالح لحسم الخلاف أو الخلافات داخلها، وبالاحتكام إلى الدستور والتشريع والمواثيق التي تعقد فتعتمد لتكون المخرج من الحرب إلى السلام الأهلي.
وها هو الوضع الحالي فضاح بالمطلق:
رئيس الجمهورية الذي يعتبر حامي الدستور ، والذي وحده يقسم على الدستور متعهداً حمايته والالتزام به، متهم الآن في دستورية وضعه في قمة السلطة. ومع ان سابقة الرئيس الراحل الياس الهراوي لم تنتقص من دستورية تمديد ولايته لثلاث سنوات، فان التمديد الثاني مطعون في دستوريته… وبالتالي فثمة من يطعن بشرعية الرئيس، ولكنه يتجاوز هذا الطعن إذا ما احتاج الى توقيعه لتمرير مراسيم معينة، سواء منها ما يتصل بالتعيينات أو التشكيلات، أو لإقرار قوانين محددة تفرضها المصلحة .
كذلك الأمر بالنسبة للحكومة، إذ يطعن البعض في دستوريتها وفي شرعيتها أو أقله في تحقيقها لمنطوق اتفاق الطائف ومن ثم الدستور الذي كُتب التزاماً به بموجبات الوفاق الوطني والعيش المشترك.
الطريف ان الحكومة المطعون في شرعيتها تجرب، كلما استطاعت، القفز من فوق رئيس الجمهورية المطعون في شرعيته، حتى إذا ألزمتها ممارسة السلطة بحضوره وتوقيعه عادت إليه طائعة مختارة، فتغافلت عن لادستوريته وعن عدم شرعيته ، وتغافل هو بالمقابل أو هذا ما كان سائداً إلى ما قبل أيام معدودة عن نقص دستوريتها ولاشرعيتها… وتنشر الفضائيات والأرضيات الصور التي لا تشي بأي خلاف أو اختلاف. ولتوكيد الوفاق يكون لرئيس الجمهورية موقعان في الصورة الواحدة: شخصه مترئساً، وصورته مجلل القاعة ومجلس الوزراء مجتمعاً!
بالمقابل، فإن المجلس النيابي المنقسم على ذاته بين أكثرية حاكمة تساند الحكومة وتدعمها وتؤيدها وتصادق على كل ما تفعله لأسباب حزبية أو سياسية من دون التوقف أمام شرعيتها أو قانونية اجراءاتها، وبين أقلية معارضة لا تستطيع ان تعطل القرارات ولكن غيابها أو اعتراضها يفقد التشريع نزاهته وترفعه عن الغرض السياسي..
هكذا ببساطة فقد لبنان مؤسسات الحكم الجامعة والضامنة للتوازن الوطني، وتحولت هذه المؤسسات إلى معمل تفريخ للعصبيات، بل إلى متاريس للمواجهات التي تتعرى تدريجياً من نقابها السياسي لتتبدى طائفية ومذهبية صريحة.
تسقط الحصون التي يفترض ان تحمي المؤسسات التي لا تضمن المشاركة فحسب بل تضمن أولاً وقبل أي شيء الهوية السياسية للخلافات وتمنع سقوطها في المستنقع الطائفي.
ومجرد الحديث عن احتمال اللجوء إلى الشارع يعني اندثار الآمال بالمؤسسات وقدرتها على حسم موضوعات الخلاف… ديموقراطياً، أي بالعمل السياسي.
لهذا تبدو مخاوف الناس من الشارع مشروعة، إذ ان الشارع يعني لهم انهيار التوازن الحامي للدولة بمؤسساتها الجامعة.
وما القول ب الشارع مقابل الشارع إلا التسليم بواقع انهيار الدولة… ولقد جرب اللبنانيون، من قبل، أسطورة حماية الدولة ، أو بالأحرى الحكم بالشارع المضاد للشارع المعارض أو الثائر، فلم تكن النتيجة إلا الحكم بإعدام الدولة ومؤسساتها، ومنح الحرب الأهلية المزيد من المبررات المشروعة وان ظلت.. غير شرعية .
حمى الله لبنان من تجربة المجرب..

Exit mobile version