انتهت الحرب الباردة بانقسام السياسة العالمية إلى ثلاثة أقسام وثلاثة أنظمة: النظام الرأسمالي ويضم البلدان المصنعة التي تعتمد الرأسمالية نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، خاصة منها الأوروبية الغربية والأميركية الشمالية تحت قيادة الولايات المتحدة، والنظام الاشتراكي وكان يضم بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي والصين، أما القسم الثالث فهو البلدان الأخرى التي كان معظمها تحت الاستعمار وما تبقى منها كان يرزح تحت نير التخلف وقد أطلق عليها اسم بلدان العالم الثالث أو تلطيفاً البلدان النامية، ومعظمها في أفريقيا لم يستقل إلا في ستينيات القرن الماضي. وبدأت مع هذا الانقسام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، وكانت هذه الحرب سباقاً بين المعسكرين لتطوير سلاح كل منهما، وفي الوقت نفسه إحداث تراكم صناعي واقتصادي يقويهما ونزاع بينهما على الهيمنة على بلدان العالم الثالث. وقد استفاد بعض هذه البلدان من الحرب الباردة ليحصل على مساعدات اقتصادية وتصنيعية وعلمية، والاستفادة الكبرى كانت في الحصول على السلاح المتطور نسبياً بأسعار خاصة وأحياناً بأقساط لاحقة الدفع.
لقد عطلت الحرب الباردة كلاً من المنظومتين الاقتصاديتين والسياسيتين. وبسبب تشكيل كل منهما حلفاً عسكرياً، الأولى «حلف وارسو» والثانية «حلف شمال الأطلسي»، تعطلت أي رغبة بالحرب أو الهيمنة على البلدان الأخرى خارج نطاق كل منظومة بسبب توازن القوى السلبي. وبقي العالم مستقراً طوال ما يقارب النصف قرن، يحفظ بلدانه توازن الرعب والحرب الباردة. وقد تعمقت الحداثة في مجتمعات ذلك العصر، كما أصبحت معايير الدولة الحديثة من الديموقراطية إلى فصل السلطات وغيرها بديهيات ينبغي العمل بها.
بعد انتهاء الحرب الباردة العام 1990، اعتُبر النظام الرأسمالي فائزاً وأنه بالتالي يحدد نهاية التاريخ واعتقدت الولايات المتحدة أن من حقها أن تقرر مصير العالم ومصير دوله ومجتمعاته.
أفرز نظام ما بعد الحداثة شروطا ًمختلفة لوضع المجتمعات وقيمها وأنماط عيشها، فتغير مفهوم العمل والربح والضمان الاجتماعي والدخل، إضافة إلى ترافقه مع تفجر الاتصال، ما أثر في النهاية على بلدان العالم جميعاً، وصارت القيم البشرية تنظر بشكل مختلف إلى الحرب والسلم والنمو الاقتصادي ونمط التطور، وصار سهلاً على الولايات المتحدة أن تفرض عقوبات اقتصادية واجتماعية على الدولة الأخرى أو تغزوها، كما أن نظام التجارة العالمية الجديد لم يتسن له النجاح لأن المنظومة الرأسمالية حولته لصالحها مثله مثل وضع البيئة في العالم.
إن هذه التطورات التي جرت منذ الحرب العالمية الثانية وما نجم عنها أوجدا عالماً جديدا ًكلياً بتكوينه وفلسفته ونظمه الاقتصادية والاجتماعية وعلاقاته السياسية والاقتصادية أيضاً ومنظومة قيمه، ما أوجد مناخاً من عدم الوضوح في الكوارث التي حلت بالبلدان العربية سواءً منها غزو العراق وغزو الكويت والصراعات اليمنية والليبية والسورية التي استمرت بضع سنوات من دون أن تهتم بها معظم دول العالم.
تعيش سوريا منذ سنوات خمس صراعات أدت إلى تدمير بنيتها التحتية ومنشآتها الصناعية والزراعية والسكنية وقتل مئات الألوف من شعبها وتشريد نصف سكانها على شكل نزوح أو لجوء. يحدث بعد ربع قرن من انتهاء الحرب الباردة وبسبب التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أشرت إليها.
لم تهتم دولة من دول العالم بما يجري في سوريا إلا من خلال مصالحها. والأغرب أن ذلك لا ينطبق على دول العالم البعيد بل على الدول الشقيقة والدول الإقليمية، فقد تدخلت روسيا عسكرياً تحت شعار محاربة الإرهاب، فدعمت النظام السوري بلا تحفظ وتناست مسؤولياته تجاه ما يجري في هذه البلاد، وأخذت تدمر منهجياً منشآت سورية من خلال قصفها للمعارضة السورية المسلحة تحت شعار أنها من الإرهابيين، وكانت قبل ذلك تعطّل أي قرار يمكن أن يصدر عن مجلس الأمن وهي تعلم أن في تعطيلها هذا إطالة لعمر الصراع. وكان ذلك كله لتظهر للعالم أنها تبنت سياسة جديدة هي سياسة القوة والتدخل بقوة في شؤون العالم كما هو الحال في أوكرانيا وجورجيا وغيرها. كما اهتمت السياسة الأميركية بحل مشاكل إسرائيل المتعلقة بالسلاح النووي الإيراني، ووجدت بعد تغير أحوال النفط الهجرة بمصالحها إلى شرق آسيا والتخلي عن تحالفاتها السابقة مع دول المنطقة، فتبنت موقفاً متخاذلاً. ونتذكر أن أساطيلها وحاملات طائراتها تراجعت بعدما كادت تقصف سوريا عندما قبضت الثمن من السلاح الكيماوي السوري. ولم يجد الأمر اهتماما من الدول الأوروبية في تحقيق أهداف جدية من دون قيادة أميركية. ولم يختلف الأمر بالنسبة للدول الإقليمية. فإيران تريد الهيمنة على بلاد الشام والعراق وغيرها، والسعودية تريد تكريس دورها زعيمة للعرب، ومصر غارقة في شؤونها المحلية متناسية مسؤولياتها الإقليمية، وتركيا تقفز من هنا إلى هناك وتطرح مشاريع عديدة لم يوافقها عليها أحد ولا يتجاوز همها الأساسي القضاء على «الحزب الديموقراطي الكردي».
هكذا، دفعت البلدان النامية، مثل سوريا، الثمن مرتين. مرة خلال الحرب الباردة حيث أغرقت بالسلاح وبالاقتصاد الأعوج، ومرة أخرى بعد انتهاء الحرب الباردة حيث لم يعد أحد يهتم بها، لا بحاضرها ولا بمستقبلها، وتُركت تواجه قدرها، بين بلدان ذات سياسة متوحشة.
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 5 آذار 2016 ويعاد نشره بذكرى وفاة الكاتب
