طلال سلمان

سوريا مهددة في وحدتها وطنية من لاعب الى ملعب مجددا

يجتاح الحزن الأخرس نفوس اللبنانيين خصوصاً والعرب عموماً، في مختلف أقطارهم، وهم يتابعون التفاصيل الدموية اليومية للانهيارات في جدران «الدولة» في سوريا واقتراب المجتمع السوري من حافة الحرب الأهلية، حتى وإن تبدى «النظام» قوياً، حتى الساعة، وقادراً على الصمود بتنازلات متتابعة لم يكن يقبل مجرد البحث فيها إلى ما قبل شهور قليلة.
وليس جديداً القول إن العديد من «الدول» تتآمر على سوريا، وأنها لا تستهدف النظام وحده، بل هي تريد التخلص من هذه الدولة التي طالما لعبت في محيطها دوراً يتجاوز قدراتها العسكرية وإمكاناتها الاقتصادية، وتمتع نظامها على مدى عقود بهيبة عز على دول عربية أو إقليمية أن تحظى بمثلها برغم أنها أغنى مادياً، بما لا يقاس، وأوثق علاقات بعواصم القرار في العالم، ولو من موقع «الحليف» تجاوزاً، و«التابع» بالفعل.
ولعل أعظم خطايا النظام أنه وحد بين ذاته وبين «الدولة» وبينه وبين «الحزب القائد» بل بينه وبين الشعب فاعتبر أنه يختصر الجميع بشخص «الرئيس»، وها أن سوريا تدفع الثمن دماءً غالية وخراباً يصعب حصره وغموضاً مفزعاً حول المستقبل.
ليست مبالغة القول إن المجتمع السوري كان يقدم نموذجاً يحتذى في التماسك وثبات وحدته الوطنية. لم تكن العروبة موضع نقاش حتى عند المتحدرين من أصول غير عربية، بل صارت هي «الرباط المقدس» بين السوريين بمختلف أديانهم وطوائفهم، عناصرهم وأعراقهم، كأنما لا أقليات فيها.
خاضت قيادته السياسية حروباً ضد العدو. هزمت وظل الشعب متماسكاً.
اصطدمت بالأشقاء في الأردن تحت الشعار الفلسطيني وظل متماسكاً.
أما في لبنان فكانت التجربة هائلة بدروسها التي قد تدل على الدهاء السياسي للقيادة، لكنها تؤكد ـ قبل ذلك ـ تماسك المجتمع السوري في مواجهة التشقق إلى حد التفتت كالذي ضرب المجتمع اللبناني.
واجه النظام صدام حسين عندما اندفع إلى حرب غير مبررة ضد الثورة الإسلامية في إيران، وبرغم اعتراضات شعبية واسعة على هذا القرار السياسي فقد ظل السوريون موحدين.
واجه «خيانة» أنور السادات، خلال الحرب 1973 مع العدو الإسرائيلي،
وواجه الخلافات متعددة الأسباب والأهداف مع ياسر عرفات حول مسيرة الثورة الفلسطينية وتكتيكاتها.
واجه الأوضاع المتفجرة في لبنان على امتداد ثلاثين سنة أو يزيد،
واجه الموقف النافر الذي اتخذه النظام فشارك في «حرب تحرير الكويت» التي قادتها الإدارة الأميركية، لإخراج صدام حسين منها،
وبعد ذلك واجه الحرب الأميركية لاحتلال العراق والتي اتخذ فيها النظام موقفاً شجاعاً كلفه، على الأرجح، مباشرة العمل لإنهاء «دوره المتضخم» في المنطقة بدءاً بلبنان، ابتداءً من صيف أيلول 2004 والقرار 1559.
واجه الشعب في سوريا كل ذلك وأكثر وظل متماسكاً وتأكدت وحدته الوطنية، في حالات موافقته على قرارات «القيادة» أو اعتراضه عليها.
لكن تلك الوحدة الوطنية الصلبة مهددة الآن عبر المواجهات التي انتقلت من الخارج إلى «الداخل»، والتي اضطر معها النظام إلى استخدام جيشه في معظم مناطق سوريا مما ألحق أذى جسيماً بصورته، بل بدوره، وفتح الباب عريضاً أمام التدخل الأجنبي الذي بدأ «عربياً» ثم انتهى بمسلسل «المحاكمات» المعنوية أمام مجلس الأمن… وهي محاكمات كسرت الهالة التي كانت تحيط بالنظام وتجعله ـ بشبكة تحالفاته وعلاقاته كما بدوره المميز ـ وكأنه يحاسِب ولا يحاسَب.
لقد خسرت سوريا رصيدها السياسي المؤثر، عربياً ودولياً.
… وها هي سوريا تكاد تعود ملعباً للدول بعدما كانت ولحقبة طويلة لاعباً مهماً يحسب له حساب، ولا يناقش دوره في المحيط أو على المستوى الإقليمي.
صارت سوريا جرحاً مفتوحاً في الجسد العربي.. وصارت أرضاً مفتوحة للصراع الدولي، وصارت الجامعة العربية تقاضي النظام وتحاكمه وتحكم بطرده، منها وصارت إمارة نفطية صغيرة تتولى دور النيابة العامة في إدانة النظام ومحاكمته.. أمام مجلس الأمن! وتعلن أنها ستسلح المعارضة وتمولها، مستبقة بذلك التحريض السعودي على مجابهة النظام، داخلياً، بالسلاح.
… وها هم المراقبون يأتون من دول بعيدة ليشهدوا على تصادم النظام مع المجتمع السوري، وتردي أحوال «الدولة» وتعاظم القلق الشعبي على المستقبل.
تكاد الدماء المهدورة في شوارع المدن والبلدات والقرى تغرق التاريخ الوطني المجيد لهذا الشعب الذي قدم أبناؤه أرواحهم رخيصة في معارك التحرير العربية مشرقاً ومغرباً.
أما في لبنان فيتسلى الطوائفيون بتفاصيل الوطن السوري، ويستقوي المذهبيون بنهر الدم الذي يمتد في الجسد السوري من أقصاه إلى أقصاه… ولعلهم جميعاً يستعدون لحرب أهلية جديدة في لبنان تستكمل ما لم تنجزه الحروب الأهلية السابقة.
.. وفي العراق يسود التخوف من تفتت الكيان بحيث تتوزع الدولة دوقيات وإقطاعيات عرقية وطائفية ومذهبية.
… وفي المنتديات الدولية يتجدد الصراع على سوريا، بعدما نجحت سوريا ولحقبة طويلة أن تكون لاعباً أساسياً، بل ومرجعية سياسية في حالات محددة ومشهودة.
الأخطر أن العروبة في سوريا مهددة وهي التي شكلت الرابط المتين بين السوريين بمختلف أديانهم وطوائفهم، عناصرهم وأعراقهم، حتى كان يصعب على زائرها أن يميز بين المتحدر من أصول تركمانية أو أرمنية أو كردية أو سريانية، فالكل «مواطنون عرب سوريون» وباعتزاز.
والخطر على سوريا ستكون له امتداداته في لبنان وعليه، كما أنه خطر داهم على فلسطين وقضيتها المقدسة.
فلا عروبة بلا فلسطين… تماماً كما «لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا»، كما كان الشعار قبل أن تتفجر سوريا بدمائها.
وليس بالمراقبين الدوليين على الحرب الأهلية تحمى الوحدة الوطنية ويحمى بالتالي الدور القومي لسوريا.

Exit mobile version