طلال سلمان

سنظل هنا.. أقوى من القتلة!

لن نفقد الأمل. لن نحمل أوجاعنا ونرحل. لن نهرب من واجبنا تجاه أبنائنا وأرضنا. لن نتركهم أيتاماً في أوطان ليست لهم. لن نتخلى عن وطننا الجميل لنعمل خدماً لدى الأغراب في البلاد البعيدة.

هذا من الشعر، وأعذب الشعر أكذبه…

أما الواقع فهو ان العالم يضيق علينا وبنا، وأننا نجد صعوبة في التنفس. تغادرنا الأحلام وتركبنا الكوابيس. نمشي على ارض من دماء أهلنا. نخاف من أخوتنا الأشقاء. نخاف من الكراهية التي تحتل صدورنا. نبتعد عن الحب ويبتعد عنا. يمنعنا الخوف من ان نحب أبناءنا وأحفادنا. نخاف من حبنا عليهم. نرى الحب ضعفاً لن ينفعهم في مواجهة المخاطر التي تتهددهم في غدهم. نخاف من ضوء الشمس. نخاف عتمة الليل. نخاف من ظلنا. نخاف من الشوارع المزدحمة. نخاف من الشوارع الفارغة من أهلها. نخاف من انغلاق الباب. نخاف من الضوء الباهر. نخاف من الظلمة. نخاف من أحلامنا. نخاف من أفكارنا. نخاف من الآخرين ويخاف منّا الآخرون. نخاف من عابري الشارع، ونخاف من الواقفين فيه. نخاف من بيروت وعليها. من صيدا وعليها: من طرابلس وعليها. من الضاحية وعليها. من البقاع وعليه.

نخاف من السياسيين. نخاف من تحريضهم. نخاف من استثمارهم الفتنة. نخاف من استقالتهم من المسؤولية. نخاف من غربتهم عنا. نخاف من تحالفهم ضدنا. نخاف من خلافاتهم، نخاف من مزايداتهم والمناقصات.

نخاف من أهل الدولة على الدولة. نخاف على الوزارات من الوزراء. نخاف على الجمهورية من رئيسها، وعلى الحكومة من رئيسها، نخاف من النواب على المجلس. نخاف من المجلس المغلق ومن الحكومة المشلولة والمعلقة. نخاف من الحكومة التي سوف تشكل أو قد لا تشكل. نخاف من الرئيس الذاهب، ونخاف على الرئيس الآتي ومنه. نخاف من الفراغ ومن ملء الفراغ. نخاف من الطائفيين. نخاف من المذهبيين. نداوي الطائفية بالطائفية والمذهبية بالمذهبية فإذا نحن في حرب أهلية مفتوحة. نخاف ان نخرج من طوائفنا وعليها. نخاف ان نبقى أسرى سجونها الخانقة.

نخاف على الاقتصاد. نخاف على الليرة. نخاف على رغيف الفقراء. نخاف من الأغنياء. نخاف من الفقراء. نخاف من الأصوليات. نخاف على الوطنية من الدين. نخاف على الدين من أمراء الدين بالقتل. نخاف من الآخر، أي آخر، مع وعينا بأنه خائف منا. لا أحد يطمئن أحداً. كلٌ يحذرك من غيره.. قد تكون أنت ذلك الآخر، وقد يكون هو الآخر.

نخاف من أحلامنا، نداريها عن الآخرين وكأنها عبوات ناسفة.

نخاف على الاجتماع. الكراهية تسد الشوارع. تسد الطريق بينك وبين الآخر. نتنفس الكراهية ولادة الخوف. نتنفس الخوف ولاد الكراهية. يضيق الوطن الصغير بالكراهية. تفجر الكراهية الوطن الصغير وتجعله مزقاً مقتتلة.

يضيق العالم بنا وعلينا. تفيض الأرض من حولنا بدماء أهلها. يمتد نهر الدم من البحر إلى البحر. كنا نهرب بدمائنا إلى أهلنا الأقربين. ها هم غارقون بدمائهم وليس من يوقف قطار الموت. والقطار بلا سائق يندفع متوغلاً في قلب جراحك بامتداد خريطة “الوطن الكبير”.

تمر بك الأعياد فتجد بابك مغلقاً بالخوف. تقبع في وحشة الوحدة ولا مؤنس لك إلا صور المحتفلين بأعيادهم في الجوار القريب الذي صار بعيداً بعيداً وغريباً عليك وأنت فيه الغريب.

يتمزق وطنك الصغير جهات. تصير الجهات جبهات مغلقة على الآخرين.

تجد نفسك أسير ذاكرتك: ولكنك عشت في الجهات جميعاً، صبياً وفتى وشاباً وكهلاً فلماذا تغلق الأبواب من حولك في وجوه أبنائك والأحفاد؟

خسرنا حياتنا. فقدنا أحلامنا. فقدنا إنسانيتنا. صرنا نتمنى للآخر الموت لأننا نفترض انه سوف يقتلنا، فإن عجز تمنى لنا الموت. ليمت قبلنا إذن.

خسرنا الوطن. خسرنا الدولة. خسرنا مجتمعنا. صرنا أشتاتاً من القتلة والمقتولين. كل تحرك بين البيت والعمل مغامرة غير مأمونة العواقب. المطعم نقطة خطرة. الفندق مصدر خطر. الدكان عبوة ناسفة. العابرون سيارات مفخخة.

الشرطي خائف. الجندي خائف. المواطن خائف. التلميذ خائف من خوف أهله. المعلمة خائفة على طلابها ومنهم. المعلم خائف من أي ملتح. كل ملتحٍ مصدر خطر.

وطنك بلا سقف وبلا جدران. مجرد مساحة. وأنت لست مواطناً ولست ضيفاً. أنت مجرد طارئ، رمتك ظروفك هنا. فاحمِ نفسك بنفسك. أليست أيامك مواعيد الانفجارات شمالاً وجنوباً، بقاعاً وعاصمة وجبلاً؟. أنت العالم كله، وفي الوقت ذاته لا أحد. تعيش بالصدفة وبالصدفة تموت.

مع ذلك كله، وبرغم ذلك كله سنبقى هنا. أرضنا هنا. أهلنا هنا. مصيرنا هنا. وسنهزم بدمائنا القتلة ومغتالي الشمس. سنهزم الخوف وسننتصر على الذين حولوا الدين من رسالة سماوية لهداية الإنسان إلى تبرير شرعي للقتل.

ولنكنْ، بإرادتنا، أقوى من القتلة وسيارات الموت التي تغتال أحلام الأطفال ونور الشمس. لن تنطفئ الشمس وستفضحهم.. ونبقى.

نشرت في “السفير” بتاريخ 6 كانون الثاني 2014 (نعيد نشرها توكيدا لواقع حالة التراجع والانحدار التي فاقت كل التوقعات.. حتى أكثرها تشاؤماً!)

 

 

Exit mobile version