طلال سلمان

سنة على احتلال عراق مر زمن على عرب

مرّ الزمن على احتلال العراق. مرّ الزمن على العرب.
هي سنة واحدة فحسب، لكنها تبدو بنتائجها وتداعياتها داخل العراق وفي محيطه العربي وكأنها إخراج للعرب من السياسة، من القرار، من التاريخ!
لم يعد أحد كما كان، لم يعد أحد حيث كان.
وضع الاحتلال الأميركي للعراق نقطة النهاية لحقبة كاملة من التاريخ العربي المعاصر، بأنظمتها والشعارات، بسلوكيات حكامها و»جماهيرها« التي دجّنها القهر المتصل دهراً فأذلّها وكسرها من داخلها فلم تعرف كيف تعارض فكيف بأن تقاوم؟!
… وإلا فما معنى أن تكون هذه »الجماهير العربية« وحدها الغائبة أو المغيّبة، لا فرق، عن ساحة الاعتراض على الاحتلال الأميركي… وهو الاعتراض الذي أسقط حكومة قوية في إسبانيا، وأخرج بضع مئات من آلاف المعترضين على الحرب بداية ثم على الاحتلال إلى الشوارع في العديد من عواصم العالم، وبينها كبريات المدن الأميركية ذاتها، في حين لم يخرج من »العرب« إلا بضع مئات من المحتجين في القاهرة وقد »واكبتهم« بضعة آلاف من رجال مكافحة الشغب؟!
مرّ الزمن على العراق الذي كان »بروسيا« العرب، مرّ الزمن على العرب الذين كانوا يحلمون بالوحدة ويطمحون إلى التقدم للانتساب إلى العصر. صار العرب أشتاتاً وصارت كياناتهم الصغيرة قواعد لجيش الاحتلال، وتهاوت مؤسساتهم التي كانت تؤكد وحدة الهوية والانتماء، وأبرزها جامعة الدول العربية، فصارت دولهم تتسابق للخروج منها ولو من باب المطالبة بإصلاحها.
مرّ الزمن على العراق الموحّد. مرّ الزمن على العرب فصارت »القمة« لا تنعقد إلا بإذن خاص ولا تتخذ أي قرار يشتبه في أنه اعتراض على الاحتلال سواء أكان أميركياً أم إسرائيلياً ناهيك بإدانته ومن ثم الدعوة لمقاومته. أما »الإصلاح« فأمر عمليات أميركي، وأهل القمة يحاولون تجنب هاوية السقوط بالإعلان أنه برنامجهم، ويعتذرون عن إرجاء تنفيذه لأنهم كانوا مشغولين بفلسطين وها هم انتهوا منها وها هم قد أفادوا من درسها فأشاحوا بوجوههم عن العراق حتى تمّ الأمر لصاحب الأمر فجاؤوه يلبون النداء خفافاً.
* * *
كما لا تبرّر الجريمة الجريمة فإن الطغيان »الوطني« لا يبرر الاحتلال الأجنبي. إنهما متكاملان تكامل السبب والنتيجة، ثم إنهما من طبيعة واحدة: قهر إرادة الشعب والتحكّم بمصير البلاد بمعزل عن رأيه ورغباته ومصالحه… بل وبذريعة تحقيق هذا كله!
لقد اختار صدام حسين »وريثه« في العراق ممثلاً بالاحتلال الأميركي.. وها هو الوريث يكمل ما باشره المورث:
بدل القمع المنظم جاءت الفوضى المسلحة. فأمن الاحتلال كأمن النظام يتقدم على كل ما عداه، وليذهب الشعب الى الجحيم… وهو قد عرفه في العراق ماضياً وها هو يزداد معرفة به في حاضره، وينتصب أمامه وكأنه قدره غداً.
بدل القهر الجماعي للأكثرية والأقليات جاءت مشاريع الفتن التي تهدد بتقطيع أوصال البلاد وتمزيقها نتفاً بعدد عناصرها الأولية المكوِّنة بأديانها وطوائفها ومذاهبها جميعاً.
صار القول بهوية »قومية« للكيان السياسي للعراق نوعاً من العنصرية وقهر الأكثرية العربية الأقليات… كأنما تبديد هوية الأكثرية ضمانة للأقليات! ولهذا يجري العمل بدأب على تقسيم هذه الأكثريات إلى أقليتين كبيرتين ولكن مقتتلتان!
صار نفط العراق الذي كان قد صادره الطاغية لفترة طويلة قبل أن تضع الأمم المتحدة يدها عليه، (بعد »نصف الاحتلال« الذي أعقب غزو صدام حسين الكويت)، لتطعم منه العراقيين وتوفر لهم الدواء، منهبة مفتوحة: تأتي الناقلات إلى ميناء أم قصر فتحمله بلا قيود، وتذهب به إلى من تشاء قيادات الاحتلال فتبيعه في السوق السوداء لأي مشتر، من دون أن يرجع من عائداته قرش واحد إلى أهله.
* * *
مرّ الزمن على العراق. لم يمر الزمن على الاحتلال الأجنبي للأرض العربية.
فما بعد العراق يكاد يكون في مثل بشاعة ما حصل للعراق، إذ كشف وكأن معظم هذه »الدول« العربية، التي لم تعترض على الاحتلال (بل وقمعت الاعتراض عليه) إنما تهيئ لقبوله باعتباره الطريق إلى الإصلاح بالديموقراطية، وإلى الانتساب الى العصر عبر الإقرار بحقوق الإنسان، وإلى التقدم عبر إسقاط الهوية القومية وطلب »الغرين كارت« من مشروع الشرق الأوسط الموسع أو الكبير!
صارت العروبة عنواناً للتخلف واحتقار كرامة الإنسان. صارت مرادفاً للطغيان والدكتاتورية والعنصرية… بينما العروبة أولى ضحايا الطغاة الذين أعملوا السيف فيها فقطّعوا أوصالها وشوّهوا ملامحها ونصبوا تماثيلهم فوق ضريحها ليكملوا الزور والتزوير.
لقد كشف احتلال العراق، بالسهولة التي تم بها، طبيعة نظامه ومعها طبيعة الأنظمة الأخرى المماثلة له، ولو تبدت مخاصمة… ومن هنا صار احتلالاً للارادة العربية جميعاً؛ طاف جنرالات الاحتلال على العديد من العواصم فاستقبلوا استقبال »الفاتحين«، وجلس إليهم الملوك والرؤساء مجاملين، وأغدقوا عليهم الهدايا والتمنيات بالنصر المبين، ولم يطلبوا منهم إلا الأمان: خذوا البلاد جميعاً واتركوا لنا شرف خدمتكم فيها، وستجدوننا إن شاء الله من المخلصين.
لم يكن ثمة فرق بين نظام ملكي ونظام أميري ونظام جمهوري.
كان السقوط شاملاً ومدوياً. ومر الزمن على النظام العربي.
* * *
مر الزمن على احتلال العراق. مر الزمن على احتلال فلسطين. مر الزمن على العرب. إسرائيل داخل نسيج الاحتلال الأميركي. إسرائيل في بغداد والبصره، في أربيل والسليمانية، في كركوك ومن حول العتبات المقدسة تحوم كملاك الموت.
إسرائيل شريكة لناهبي ثروات العراق، تحت لافتة إعادة إعماره، وفيهم كثير من الأجانب وقليل من العرب. إسرائيل في الشركات التي تنال برشوة كبار ضباط جيش الاحتلال عقود المشاريع الكبرى الموعودة. تموّه وجودها ببعض الهويات الأجنبية والعربية أو المتحدرة من اصل عربي. ولم يعد ضباط الاحتلال يطلبون الرشوة نقداً ليحملوها باليد إلى بلادهم البعيدة.. صاروا يتجرأون على فتح الحسابات الشخصية في مصارف عمان، لتحول إليها »الاتعاب«. »البيزنس« بعض ملامح الاحتلال، كما كان بعض ملامح الطغيان… والخير العراقي وفير، يكفي »الأخوة الاعداء« و»المحتلين الأصدقاء«.
* * *
مرَّ الزمن على احتلال العراق. ها هو النقاش يتركز حول عدد »العراقات« التي سيبتدعها
الاحتلال: واحد للأكراد، واحد للسنّة، واحد للشيعة، وربما كانتونات للكلدان والأشوريين، وربما للصابئة أيضاً واليزيديين. أرض السواد فسيحة تتسع لكثير من »الدول«…
والأمم المتحدة التي عجزت عن منع الاحتلال، وأجبرت الضغوط والصفقات دول مجلس الأمن فيه على تشريع الاحتلال، تبدو الآن وكأنها من زمن مضى، فقدت دورها الأصلي، ولم يتبق أمامها غير الاعتراف بالأمر الواقع، وتقديم الضحايا لتثبيته، مساوية في هذا المجال بين موظفيها الأمميين والساعين لخدمتها من العرب، عراقيين ومصريين ولبنانيين الخ…
مر الزمن على احتلال العراق. مر الزمن على احتلال العرب.
وجنرالات الاحتلال الأميركي يهددون السعودية بأكثر مما يهددون سوريا. ورئيس الاحتلال يقرِّع أصدقاءه من حكام العرب لنقص إيمانهم بالديموقراطية. ويطالب قمتهم بأن تأخذ »بالاصلاح« فتستمهله سنة واحدة لكي يرتب أهلها أمورهم بقرارهم الوطني المستقل، وليس بالفرض من الخارج.
* * *
بعد سنة من احتلال العراق: هل بقي عربي واحد حراً؟!

Exit mobile version