طلال سلمان

سنة بعد قانا

اما وقد اختُتمت الاحتفالات الرسمية شبه الشعبية بالشهادة والشهداء في قانا وسائر الجنوب والبقاع الغربي، فلا بد من بعض الكلام الصريح خارج دائرة البكائيات المستوفية شكلياتها الوطنية والمفرغة من اي مضمون سياسي فاعل ومؤثر في صورة الغد.
فجميل ان نزرع صور الشهداء، بشرا وامكنة، في الذاكرة، فلا ننسى قانا، بل ننظم لها الأغاني ونرشقها بالخطب ونضيء لها الشموع القليلة في أمسية الوداع الحزين.
لكن الاجمل ان نكون قد اعطينا الاحياء في قانا والنبطية والمنصوري وسحمر وسائر الجنوب والبقاع الغربي ما لم نستطع ان نوفره للذين استشهدوا فافتدونا قبل عام.
وخارج دائرة الاستذكار البكائي يمكن طرح اسئلة جارحة من نوع:
} هل نحن اليوم، وبالفعل، اكثر تماسكا مما كنا عشية المجازر الإسرائيلية التي حملت اسم »عناقيد الغضب«؟!
لقد بدا، في وهج الدم المُراق والاجساد المحترقة، آنذاك، وكأن اللبنانيين قد رموا بعض خلافاتهم وبعض احقادهم وبعض حساسايتهم الطائفية والمذهبية خلفهم، وتقاربوا بعدما تأكد لهم للمرة المليون أنهم في العين الإسرائيلية واحدة، وأنهم جميعا في موقع »العدو«…
} فهل مجتمعنا، الآن، اكثر صلابة، وأكثر استعدادا للصمود؟!
قبل عام، وبينما كان الجنوبيون ينزحون، او يُجبرون على النزوح، فيتكدّسون في الشاحنات او في السيارات التي لا تخطئ العين »هوية« ركابها ووجهتهم، كان سائر اللبنانيين »يتفرجون« على الإسرائيليين في ملاجئهم على الضفة الأخرى من الحدود، فيكادون يحسدونهم اذ يرونها، بنظافتها وتجهيزاتها الحديثة وصلابة بنائها افضل من بيوتهم اجمالا.
} هل أقيمت، خلال العام المنقضي على مجازر نيسان 1996، الملاجئ الكافية للجنوبيين؟
ام هل بوشر ببناء مثل هذه الملاجئ، ومن ضمن خطة تستند الى التقدير البسيط القائل: ان مشروع »السلام« بعيد المنال، هذا اذا لم يكن مجرد سراب، وبالتالي فإن الاعتداءات ستستمر، على نطاق ضيق دائما، وقد يتوسع نطاقها بين حين واخر وفق مقتضيات السياسة الإسرائيلية، وهو قد يشمل اليوم او غدا بيروت، وربما تعداها الى اقصى الشمال او اقصى البقاع او رؤوس القمم التي لا تُطال!
***
من باب الاستطراد، لا بد من طرح السؤال:
} هل الحكم، اليوم، اكثر اهتماما بالجنوب، صمودا ومواجهة وبشرا لهم احتياجاتهم الطبيعية، منه بالأمس؟!
قبل سنة، وفي مواجهة الاجتياح بالنار، اكتسب الحكم قدرا من التماسك، وتحرّك الرؤساء وبعض الوزراء بقدر ملحوظ من الحيوية، ولا سيما رئيس الحكومة…
وعبر قانا وُلد مشهد نادر للتضامن الوطني في وجه الخطر الإسرائيلي.
أما اليوم، فإن خلافات الرؤساء هي عناوين الصحف يوميا، وهي مقدمات النشرات الإخبارية المتلفزة والمعمّمة فضائيا على المعمورة.
ثم إن »غياب« رئيس الحكومة موضع انتقاد، وكذلك »سفر« رئيس المجلس، وربما وزير الخارجية… لأن السفر، او التحرّك، لم يعد مرتبطا بالمواجهة وباستنفار الصداقات وحشد التأييد لتعزيز الصمود وإدانة المعتدي.
حتى في الشكل: فإن الاحتفالات جاءت تكريسا لانقسام فوق قمة السلطة اكثر مما عززت او اكدت وحدة اللبنانيين في مواجهة من يحمل إليهم الموت اليومي.
***
من باب الاستطراد أيضا يفرض سؤال آخر نفسه:
} بعد اربعة اشهر، إلا قليلا، من الاجتياح الإسرائيلي في نيسان 1996، أمكن إجراء انتخابات نيابية في لبنان، في ظل انضباط أمني نادر المثال، برغم تعدد اللوائح أحيانا، وتوحيدها الإلزامي أحيانا أخرى.
اما بعد سنة من ذلك الاجتياح، فقد اعتذرت السلطة عن عدم إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية، مبرّرة تهرّبها من هذا الالتزام بأنها لم تكن متنبّهة الى بعض التغيّر الديموغرافي الذي استولدته الحرب الأهلية، مع التلميح الى أن إجراء الانتخابات قد يضرب الوحدة الوطنية… ولولا شيء من التورّع لقال قائلهم: قد يخدم العدو الإسرائيلي!
في هذه الفترة بالذات كانت إسرائيل تشهد بعض اخطر التحولات في تاريخها:
طارت حكومة »الغضب«، واندثرت او تكاد تندثر زعامات »تاريخية«، وتفككت احزاب طالما مثلت تيارات اساسية في »المجتمع« الإسرائيلي، ونشأت تحالفات جديدة، وبُعثت قيادات عسكرية كريهة فعادت الى واجهة القيادة (شارون، ايتان) حتى يكاد يمكن القول ان »عاما ما بعد قانا« يوشك أن يُنتج توازنا جديدا، ومن طبيعة مختلفة، الى حد كبير عما ألفته الحياة السياسية الإسرائيلية.
على هامش تلك الوقائع، تعمّق نهج التطرّف في إسرائيل، ولم يمسك فقط بناصية الحكم فيها، بل هو قد مد نفوذه ومنطقه الى مراكز القرار الدولي، وتحديدا في الولايات المتحدة الأميركية وعبرها الى الأمم المتحدة (شاهد الزور والضحية التي لم تمت في قانا) ممثلة بهيئتها التنفيذية: مجلس الأمن الدولي.. وهكذا تعطلت هذه المرجعية التي يُفترض أنها تنطق باسم المجتمع الدولي، وتمثل، في احكامها (وإن لم تنفذ)، الشرعية الدولية، وتشكّل قوة ضغط سياسية، اضافة الى كونها مصدر المستندات التاريخية لمن يقدر على استخدامها للحصول على حقه المضيع.
بعد عام، تبدو إسرائيل وكأنها على وشك استعادة وحدتها الداخلية باعتماد »التطرف«، أي »الحرب«، نهجا وحيدا، لفرض مخططاتها التوسعية (عبر مستعمراتها الاستيطانية)، على العرب مجتمعين.
في المقابل، يبدو لبنان وكأن وحدته الداخلية قد ضعُفت عما كانت في مواجهة العدوان، وأن سلطته قد فقدت وحدتها، برغم وعيها أن النار الإسرائيلية مرشحة لأن تمتد فتحرق المزيد من الناس والأرض والمنشآت الحيوية كمحطات الكهرباء والطرق والجسور والشجر والمواسم والذكريات الحبيبة.
***
صمت ما بعد الاحتفالات يستدر الأحزان دائما،
… خصوصا إذا ما كان الصوت الوحيد المدوي، عبره، يعود الى الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تخرق جدار الصوت فوق لبنان كله، من أقصاه العربي الى أقصاه الدولي.
وسلاما للشهداء الآتين.
طلال سلمان

Exit mobile version