طلال سلمان

سمير جعجع الى حرية لا »فعل ندامة« ولا »فعل اعتراف«

مبروك لسمير جعجع هذا الانتصار الذي تحقق له، بعفو سياسي بما يشبه الإجماع النيابي، فأعاده معززاً مكرماً، وبصفات لم يكن يدّعيها أو يحلم بها، إذ تعدت حدود البطولة إلى القداسة، إلى موقعه في النادي السياسي اللبناني، الذي ظل شاغراً ينتظره طيلة أحد عشر عاماً أو يزيد قليلاً.
ولكن المواطن العادي كان يأمل ان يسمع من هذا السجين كلمات تفيد بمراجعة تجربته السياسية والعسكرية الغنية، خصوصاً انه لعب دوراً استثنائياً قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثم بمزيد من النفوذ بعده، وخاض معارك هائلة في الشمال وجبل لبنان وصولاً إلى اطراف بيروت وشرقي صيدا، وكان أحد بطلي »حرب الإلغاء«، قبل ان تضمّه التسوية (اتفاق الطائف) إلى سلطتها السياسية التي سرعان ما خرج منها لأن ما عرض عليه كان في تقديره أقل مما يستحق.
لم يكن أحد يطمح إلى سماع نقد ذاتي كامل للتجربة، خصوصاً والرجل يخرج من السجن إلى حفاوة مبالغ بها من طرف الطبقة السياسية التي تضم شركاءه السابقين واللاحقين (ولو من موقع الخصومة).
وليست مسؤولية سمير جعجع ان يكون العفو السياسي قد تجاوز الحدود، فطوى صفحة سوداء من تاريخ تجربته، عبر الحرب الأهلية وبعدها، ولكن يظل ان هذا المقاتل الجبلي الذي تختلط في وجدانه ثقافة كهنوتية بأفكار تبشيرية حول العدالة والمساواة يجنح إليها أبناء الأرياف عادة، لم يتوقف لحظة واحدة للمراجعة الذاتية، ولم يجد في سيرة ماضيه ما يستحق الإشارة إليه، فاكتفى بأن دعا إلى طي صفحة الماضي والتطلع إلى الأمام.. وكأن الماضي ليس موجوداً في المستقبل.
لقد تعامل سمير جعجع مع اللبنانيين طبقاً لتقاليد السياسة المحلية »العريقة« التي تتعامل مع شعبه وكأنه بلا ذاكرة… بل لعل التوصيف الأدق يقضي بالقول ان للبلد ذاكرتين بل ثلاثاً، أو أربعاً أو خمس ذاكرات، أو ربما تكون بعدد الطوائف والمذاهب والشيع.
ف»الخائن« لدى طائفة »بطل« لدى الطائفة الأخرى، و»المجرم« هنا قد يكون »محرّراً«« هناك، والعكس صحيح.
وينسحب هذا التقلب في التوصيف على الرؤساء والزعماء، إجمالاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر: فقد كان إميل إده »بطلاً« ثم انقلب في ذهن العامة، مع اعتراضه على تعديل الدستور بعد إعلان الاستقلال، إلى »خائن«! وجاء بشارة الخوري إلى رئاسة الجمهورية كبطل للاستقلال وخرج منها مداناً بتهم شتى بينها الفساد وما هو أخطر: »جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب«…
وكذا الأمر مع كميل شمعون الذي بات رئيساً بوصفه »فتى العروبة الأغر« وانتهى مداناً بتهمة الاستعانة بالأجنبي، مما جعله أكبر الزعماء المسيحيين إلى ما قبل انفراد آل الجميل بتلك الزعامة بالوسائل كافة بما فيها السلاح والتنقل طلباً للدعم بين نهاريا الإسرائيلية والعاصمة السورية. أما سليمان فرنجية الذي وصل إلى الرئاسة بقوة »الحلف الثلاثي« فقد انتهى متهماً بأنه والى الحكم السوري أكثر مما يجب. وأما أمين الجميل الذي وصل إلى الرئاسة، بعد اغتيال شقيقه بشير الجميل، ومثله على ظهر الدبابة الإسرائيلية، والذي عقد »اتفاق 17 أيار« تحت عنوان تسريع جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان، بينما الاتفاق يسترهنه، فقد اعيد إليه اعتباره بعد خروجه من الرئاسة وقد تركها للريح وتجديد الحرب الأهلية.
… وفي ظل هذه الحرب المتجددة صار سمير جعجع أحد زعيمين في »المجتمع المسيحي« كان لا بد من »حرب إلغاء« بينهما لأن في بيت الزعامة مقعداً واحداً.
لكل طائفة في لبنان ذاكرتها. ولكل ذاكرة أبطالها.. وبالمقابل تستقر فيها صور »الاعداء« من القادة المنافسين الذين لا يتورع خصومهم عن تصنيفهم »خونة« أو »من المتعاملين مع العدو«. وحتى »العدو« متغير: فهو في ذهن البعض إسرائيل وحدها، وفي ذهن آخر هو سوريا بلا شريك!
* * *
مبروك لسمير جعجع حريته المستعادة بعفو حظي بما يشبه إجماع الطبقة السياسية، بقديمها وجديدها المستولد حديثاً… (ولا بد ان نذكر بفضل قرينته ستريدا جعجع في إبقاء »قضيته« حية، وفرضها شرطاً للتحالف مع الذين طلبوا التحالف معها لمواجهة الخصم القديم الجديد: »الجنرال«)!
.. ولكن اللبنانيين الذين لم يخرجوا للاعتراض على ذلك العفو الاستثنائي كانوا يأملون ان يسمعوا منه، إضافة إلى تصنيفه للقوى الحليفة مع تناسي الآخرين، شيئاً من النقد الذاتي، أو المراجعة التي اتسع لها وقته الطويل خلف القضبان.
كانوا يأملون منه ان يكبر، مع عفوهم، فيتجاوز نفسه بكل مراراتها ليطلق كلمة اعتذار للضحايا الذين تسبب بإيذائهم، من موقع القائد المسؤول.
ولعلهم كانوا يأملون ان يسمعوا منه، وبالتحديد، ولو تلميحاً إلى الأسباب التي أدت إلى توقيفه، وإلى صدور تلك الأحكام بالسجن المؤبد عليه من أعلى السلطات القضائية في لبنان.. خصوصاً ان بين الضحايا الذين حوكم على جرائم اغتيالهم قادة وطنيين متميزين، على رأسهم الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وزعماء سياسيين بينهم داني شمعون، من دون ان نستذكر كل الضحايا ممن يمكن إدراجهم في خانة المقتولين في الجرائم التي »تبررها« الحرب وحواجزها الطائفية، كما البربارة.
لم تكن كلمة اعتذار رقيقة لتسيء إلى صورة »الزعيم المحارب«، خصوصاً انه أشار إلى ان »بيتنا اللبناني الداخلي في حالة اختلال وعدم توازن نتيجة ال15 عاماً من القهر«… فتعهده بالعمل »لمزيد من التفاهم على إعادة التأهيل اللازمة« كان يقتضي مثل ذلك الاعتذار.
ويحفظ سمير جعجع »فعل الاعتراف« بالتأكيد، وهو يحفظ بالقطع »فعل الندامة«… لكن اللبنانيين لم يسمعوه يتلو أحدهما أو الاثنين معاً.
ولعله لو قرأهما كان قد خرج من الصورة »العسكرية« التي لا يحبها الناس فيه إلى صورة القائد السياسي المسؤول الذي يستحق عفواً أخطر وأبقى من ذلك الذي أقره مجلس فيدرالية الطوائف بقوة خوف بعضها من بعض، لا بقوة إيمانها بالوطن الذي لا يمكن ان يبقى وأن تتوطد أركانه إلا بوحدة وطنية حقيقية وحياة سياسية قائمة على أساس صلب، بين أسباب صلابته الاعتماد على المصارحة والمحاسبة ونقد الذات بدل الاكتفاء بنقد الآخر حتى »إلغائه«.
عسى السيدة جعجع تذكره بهذين »الفعلين« خلال شهر عسلهما الجديد أو المتجدد.

Exit mobile version