طلال سلمان

سلطة طائف انعزالية جديدة مدولة

لا يحتاج أي مواطن في لبنان إلى قدرات استثنائية على قراءة الغيب ليعرف أن الانتخابات النيابية، المقررة بعد شهرين، ستحمل إلى المجلس الجديد، بأفضال عبقرية السلطة وعمق »التزامها الوطني«، نسبة من غلاة الطائفيين والمذهبيين تتجاوز كل ما عرفته المجالس السابقة.
ومنطقياً، بالتالي، أن نفترض أن الذين تميّزوا عبر تاريخهم السياسي بمواقفهم الوطنية والقومية والتقدمية سيواجهون خياراً صعباً: بين الالتزام بما كان يسمى »الثوابت« والتعرّض لهزيمة »شعبية« ساحقة، أو ابتلاع المواقف المبدئية ومداراة »الهياج« الطائفي والمذهبي، وربما مسايرته والسكوت عما فيه من انتهاك لحرمة ما آمنوا به وناضلوا من أجله، للحصول على مقعد في مجلس ال2005 المظلل بالقرار الدولي 1559.
لقد انزلقت السلطة إلى المستنقع الطائفي، خرجت من ثوابتها التي كانت تحميها وتعصمها، معنوياً، واندفعت إلى سوق المزايدات والمناقصات الطائفية والمذهبية.
ولم تكن العودة إلى قانون الستين للانتخابات النيابية أول خروج من السلطة على اتفاق الطائف، وهو لن يكون الأخير طالما أن هذه السلطة القاصرة والمرتكبة والمرتبكة تحاول مداراة عجزها بمزيد من التورط في المحظور. إنها تتعرى من مبررات وجودها بذريعة ضمان استمرار هذا الوجود. إنها تدعي أنها إنما خرجت على الطائف لتحمي اتفاق الطائف، ولتضمن تطبيقه!
وبغض النظر عن الإساءة إلى سمعة لبنان واللبنانيين التي تشكلها العودة بالتقهقر غير المنظم إلى أكثر القوانين طائفية في تاريخ لبنان، فإن الخروج على الطائف يسهم في تجريد السلطة من شرعيتها، ويكشفها أكثر فأكثر أمام حرب التدخل الدولي.
وليس مما يزكي السلطة، وطنياً، أن يكون رجل القرار 1559 هو من يدعوها إلى الالتزام باتفاق الطائف، وهو بالتالي مصدر الشهادة لها بأنها لم تخرج على ذلك الاتفاق.
إن شهادة حسن السلوك من رجل القرار الدولي هي هي بالذات الدليل المادي المحسوس على أن هذه السلطة قد خرجت على اتفاق الطائف ومنه، فلو أنها كانت ملتزمة به لما توفرت »الذريعة« أصلاً لاستصدار القرار 1559 ولما صار السيد تيري رود لارسن مصدر شهادات حسن السلوك للسلطة في لبنان، بل وحتى للأداء السوري في لبنان.
بديهي، والحالة هذه، أن تخسر السلطة في الانتخابات… إذ يفترض أنها »بنت الطائف« وبالتالي مبرّأة من الطائفية والمذهبية، حتى مع كونها تقود نظاماً يراعي التوزيع الطائفي.
كان الافتراض أن هذه السلطة تقود البلاد نحو الخروج التدريجي من المستنقع الطائفي، فإذا هي اليوم تحجز لنفسها، بأقطابها وأطرافها جميعاً، مقاعد متقدمة فيه، وتخوض مساومات رخيصة من أجل الحفاظ على حصة »الأكثرية«، بغض النظر عن هوية من ستدفع بهم إلى ميدان السباق لتحصل على هذه الأكثرية، وكذلك عن الوظيفة الفعلية لهم ومدى قربها أو بعدها عن الشعار الوطني، وعن الهوية القومية لطبيعة الصراع الذي يستهدف اليوم الموقع الوطني القومي للبنان ومعه دائماً سوريا.
لا تنتصر الوطنية أو العروبة بالطائفيين والمذهبيين.
وفي مثل هذه المبارزات مع المعارضات ذات الشعار الطائفي والمذهبي تكون الضحية الأولى »الوطن« وفكرة الدولة… ومن أسف أن السلطة تبدو مستغرقة في هذه المبارزة حتى حدود… الانتحار.
إن فوز الطائفيين على لوائح السلطة لن يكون انتصاراً للوطنية والعروبة، بل هو سيكون انتصاراً للمعارضات ذات الشعار الطائفي والمذهبي أصلاً، وهكذا فإن السلطة ستكون مجرد »رافعة« لهذه المعارضات على حساب مبرّر وجودها المختلف، أقله من حيث المبدأ، وهو السعي لنصرة ما هو وطني على ما هو طائفي.
إن هذه السلطة لا تتعلّم لا من التاريخ ولا حتى من تجاربها الخاصة.
إنها سلطة لا تتعب من تزكية معارضاتها المتعددة الأهداف والأغراض. إنها تقدم إلى المعارضين، كل يوم، حليفاً جديداً كان حتى الأمس القريب أحد أركان »الخط الوطني«، وبالاستطراد بين حلفاء سوريا.
أكثر من ذلك وأدهى: إن هذه السلطة تتواطأ، موضوعياً، على الذين ما زالوا يؤمنون بوطنيتهم وبعروبتهم، وبينهم من ما يزال يقبض بيديه على جمر العلاقة مع سوريا، برغم كل ما نالها من إساءات وصلت إلى حد التشهير المبتذل، أخلاقياً، وإلى حد امتهان كرامتها (وضرورتها) سياسياً.
إن أكثر المتضررين من مثل هذا السلوك الانتهازي للسلطة هو منظومة القيم الوطنية والقومية وحَمَلة راياتها مع اللبنانيين: يستوي في ذلك »حزب الله« وأصحاب التاريخ الحافل بالنضال الوطني والقومي، والذين أعطوا ولم يأخذوا، وضحّوا كثيراً من دون منّة، وهم الآن يعيشون لحظة خوف حقيقي على ما كان تحقق في لبنان وله من منعة ومن سابقة في الجهاد وفي التحرير في ظل نوع من الديموقراطية التي كانت تزكي النهج الوطني القومي فيه.
ولقد ثبت ما لم يكن بحاجة إلى إثبات: ان سلطة رديئة لا تحمي سياسة سليمة، وإن سلطة انتهازية لا تنتج منهجاً وطنياً، مهما تضمن خطابها من عبارات مفخمة الرنين.
كذلك فإن السلوك البوليسي لا يحمي الشعار الوطني بل هو يفرغه من مضمونه، ويسيء إليه بأن ينسب إليه القهر والقمع وجر الناس إلى »الجنة« بالسلاسل!
ومع أن لبنان ليس بحاجة إلى دروس في سموم الطائفية وتأثيرها المدمر على فكرة الوطن، وحتى على مشروع الدولة، فإن الانتخابات على قاعدة طائفية مذهبية كالتي أجراها الاحتلال الأميركي في العراق لا يمكن أن توفر ضمانة لا لوحدة العراقيين ولا لمنعة دولتهم »الجديدة«، فضلاً عن وحدتها.
مرة أخرى نقول: إن السلطة قد ارتكبت فاحشة بالعودة إلى قانون الستين، وهي قد بررت هذه الفاحشة بفواحش أخرى أبرزها استرضاء قادة الطوائف ومرجعياتهم ثم النزول إلى الميدان لمنازلتهم بأسلحتهم ووفق »قانونهم« المستعاد من تلك الحقبة التي جرت فيها المساومة الشهيرة: عروبة للخارج، مع موقع متقدم للانعزالية في سلطة الداخل… وهي السياسة التي أطلق عليها المفكّر منح الصلح تسميتها الدقيقة: الانعزالية الجديدة.
إن السلطة التي »أنجبها« اتفاق الطائف تغادره الآن نحو انعزالية جديدة يظللها ويحميها القرار الدولي، في لحظة ضعف شديد للقوى الوطنية والعربية، في لبنان وسائر المنطقة العربية.
والسلطة، قبل المعارضات المختلفة، مسؤولة عن هذه الانتكاسة الجديدة، بغض النظر عن خطابها المعد للتصدير في مواجهة التدخل الدولي، الذي بات بين ركائز النظام الجديد!

Exit mobile version