طلال سلمان

سلام موت وارض حياة

أي »سلام« هو هذا الذي يزيّن الموت في عيون الشبان المقبلين على الحياة ويجعله »أجمل« منه وأكثر فائدة؟!
لقد قالها ذلك الشاب الفلسطيني المجهول الاسم المعروف الهدف، أمس، بأفصح لغة يمكن استخدامها: إنه »سلام« لا يؤدي إلا إلى الموت، وأشرف منه الموت، وأن تنفجر فيه أفضل من أن تعيش فيه!!
إنه »سلام« خير منه الموت!
ومع الموت، كبديل عن السلام المفروض، تتهاوى معù أطرافه جميعù: إسحق رابين وشيمون بيريز وياسر عرفات وأصحاب التواقيع الملكية!
دائمù كانت هناك عروض بالسلام الإسرائيلي،
ودائمù كانت الوسيلة الفعالة في رفضها أن يموت المعروضة عليهم ويقتلوها معهم لإثبات عدم صلاحيتها أو عدم قابليتها للحياة!
فالسلام الإسرائيلي هو حرب لا فرصة للانتصار فيها، أو حتى للتعادل: إن قبلته كان ذلك إعلانù بموتك، وإن أنت حاولت رفضه كان عليك أن تموت لتعلن عدم قابليته للحياة!
هي الحرب دائمù: معلنة من طرف إسرائيل، فإن دخلتها فأنت مقتول طلبù للنصر، نصرك، وإن أنت هربت منها فأنت مقتول طلبù لنصرها عليك!
لا يعفيك من نارها أن تهرب منها، ولا ينجيك من نتائجها أن تستسلم من قبل أن تقوم، أو في ميدانها: فلا بد من منتصر ومهزوم، وأنت المقرَّرة هزيمته، وعليك أن تسلّم بالنتائج من قبل أن تقوم الحرب، أو بعد أن تضع أوزارها، وإلا كُتب عليك أن تحارب إلى الأبد… ومَن هو المجنون الذي يقرِّر أن يعيش عمره في الحرب ولها؟!
* * *
حتى من قبل أن تقوم إسرائيل كدولة كان ذلك هو الخيار المعروض على الفلسطينيين وسائر العرب: تسلِّم أرضك لليهود وتخرج منها إلى عراء التيه والصقيع والعدم، أي إلى الموت المطلق في ثلج الغربة والنفي وانعدام الأهلية، أو تقاتل فتُقتَل وتكتسب بموتك هويتك وتعطي لقضيتك الشرعية والقداسة؟!
حياتك تتأكد بموتك، وكذلك عدالة قضيتك، تمامù بقدر ما يؤكد اليهودي عدم موته هو بموتك أنت، وعدالة »قضيته« بانتفائك كشاهد على عدالة قضيتك أنت!
أنتَ محاصر بين موتين: موت يلغيك وموت يؤكد حضورك، وعليك أن تختار،
وهو محاصر بين حياتين: حياة تؤكد حقه في أرضك وتلغيك، وحياة تنفي حقه من خلال نفيها وجودك أصلاً وتوكيد حضوره التاريخي عبر القرون والأجيال.
أنت اللا أحد، دائمù، ووجودك هو المفاجأة،
وهو الوجود التاريخي العريق والدائم، وغيابه هو الاستثناء والطارئ والمؤقت بحيث لا يكتسب حلولك »مكانه« في بيتك، وعلى امتداد آلاف السنين، شرعية تعطيك الحق بالهوية والمواطنية حتى والأرض تحمل اسمك لا اسمه، وتحمل لون بشرتك وتستمد منها عيناك لونهما كما تشتق من تفاصيلها أسماء لأبنائك والبنات!
* * *
إنه »سلام« خير منه الموت،
كان كذلك منذ البداية، وهو كذلك الآن ومهما ذيَّلته التواقيع، ثورية (سابقù) وملكية!
فتفجير الذات يعني إرادة الخلاص من ياسر عرفات والملك حسين (وأنور السادات) بقدر ما يعني إرادة الخلاص من احتلال إسحق رابين وإرادة »السلام« المجسّدة فيه.
هم كلهم شركاء في الرغبة في الخلاص من »أعداء السلام«،
إنهم حلفاء الموت،
ولذلك فهذا الذي قرَّر تفجير نفسه كان يريد أن يقتلهم جميعù، أن يفضحهم جميعù، أن يسقطهم جميعù، وهو يعطي دمه لأرضه لكي ترتفع به بعيدù عنهم جميعù.
فالفلسطيني هو الباقي في فلسطين، أما الطارئ فيذهب جفاء، ولا تحتفظ الأرض منه بأثر. لقد عَبَر وانتهى الأمر، ولم تستبقِ الأرض حتى آثار أقدامه عليها..
* * *
منذ ثمانين سنة والفلسطيني يميت نفسه ليستبقي فلسطينه!
ومنذ ثمانين سنة واليهودي يقتل الفلسطيني خصوصù والعربي عمومù ليحاول إعطاء هوية إسرائيلية للأرض الفلسطينية، أي العربية.
وها هو الآن يحاول، خارج فلسطين، طمس الهوية العربية لهذه الأرض الممتدة بين المحيط الأطلسي والخليج، ويسميها بموقعها الجغرافي بالنسبة إليه كغربي، أو كوافد من الغرب،
إنه يتصرَّف وكأنه ملك الأرض ومَن عليها، وإلى جوارها، بحيث يستطيع أن يبدِّل الأسماء والملامح والعلامات الفارقة والتاريخ والجغرافيا والوجدان والدور الحضاري جميعù،
لكن فلسطين ترفض الاندثار، وذاكرتها أقوى من أن تقبل مسخ التاريخ والانطفاء في رماد الأسطورة التوراتية.
* * *
أي التواقيع هي الأصدق: توقيع الانتماء بالدم، أم توقيع التنصّل طلبù للتاج؟!
قبل ثلاثين سنة كان التوقيع ل»فتح« و»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين«. ومن قبلهما كان ل»شباب الثأر« و»أبطال العودة«. اليوم تحمل العمليات أسماء »حماس« و»الجهاد الإسلامي«.
والتواقيع هي هي لم تتغيَّر. فمَن وقَّع باسم العروبة كمَن وقَّع باسم الإسلام أو باسم النصرانية. كلهم يوقعون باسم الأرض: فلسطين، وإن اختلفت الشعارات والإيديولوجيات.
هي الباقية والثابتة والدائمة: فلسطين، بهويتها العربية، وبإشعاعها الديني، وبقداستها التي ترخص في سبيلها الدماء والأنفس التي حرَّم ا” قتلها إلا بالحق!
هل أغلى من أرض يقتل صاحبها نفسه حبù ليبقى فيها؟!
* * *
… وإسرائيل ترفض، بعد، أن توقع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية!
فلتحتفظ بالرؤوس المائتين، ولتخزِّن المزيد منها،
ولتحنّط التواقيع الملكية على »المعاهدات« و»اتفاقات« الصلح المنفرد، التي نالتها بالفرض أو بتهافت الموقعين،
فالإنسان هو الأصل.
وفلسطين، كما أي أرض عربية، تبقى بأصحابها ولأصحابها، لم يأتِ بها ملك ولم يخترعها رئيس، ولا يستطيع أن يلغيها صاحب جلالة أو قائد شرطة يعمل في خدمة الاحتلال.
إنها لطلاب الحياة. إنها لأبناء الحياة.
ومن أجل ذلك يموت الفلسطيني لتبقى له فلسطين.
بالموت تُكتب لنا الحياة.
والحياة هي التي أخذت الثورة إلى الداخل، وهي التي تستبقي لفلسطين اسمها وهويتها وشعبها العظيم.

Exit mobile version