أرخص ما في الكيان، سيادته.
هذا الرخص قديم. لبنان تمسك بالسيادة لفظاً وتهاون بها فعلاً. الميثاق الوطني، المسيحي الاسلامي، ادعى حماية السيادة، لأنه صانها باللاءين: لا للشرق ولا للغرب. لا للوحدة ولا للحماية. ادعاء كاذب سقط بعد سنوات.
سقطت السيادة عندما تحول لبنان إلى ساحة صراع بين الناصرية ومشروع ايزنهاور، وبين الانعزالية والعروبة، وبين الكفاح الفلسطيني المسلح وخصومه. استدعى اللبنانيون جيوش العالم للاشتراك في حروبه. استدعوا دمشق فلبت. استدعوا اسرائيل فاجتاحت، استدعوا المارينز ثم هربوا، استدعوا الاشقاء العرب فحضروا بعدتهم واعدادهم، حتى باتوا في ما بعد تحت امرة دمشق.
يستطيع اللبنانيون أن يدّعوا ما شاءوا وأن يطربوا على موال السيادة. وعليهم أن لا يندبوا السيادة، بحجة او بحاجة. اللبنانيون يجمعهم الانقسام. انهم كذلك ويزدادون انقساماً. وانقساماتهم سياسية ذات اصول طائفية. وللطوائف في لبنان ما يشبهها في الاقليم. لبنان لا يكفي طوائفه ابداً. فهو اما يستدعي او يُستدعى إلى الخارج.
مناسبة هذا القول الآن، وتكراره مرة تلو مرة، تباكي المهزومين بسبب الانتصار على الارهاب. هؤلاء، لم يتباكوا على لبنان عندما احتلته اسرائيل برفقة لبنانيين “لاستعادة السيادة” المنتهكة من الفلسطينيين. تباكوا بعد التحرير على السيادة، بحجة أن سلاح “حزب الله” قد اعتدى على الدولة عندما تفّرد بقرار التحرير… وقاحة تدنو من الخيانة، أن ينزل “السياديون” إلى الشارع ليطالبوا “حزب الله” بتسليم سلاحه إلى “الشرعية” صاحبة “قرار السلم والحرب”.
ما لنا ولهذه اللغة؟ فلنتحدث في السياسة. بشارة الخوري ورياض الصلح انجزا ميثاقاً معقولاً، ولكنه لم يصمد. لا بد من سياسة واقعية، تقرأ لبنان بتكويناته الطائفية، وانتماءاته اللاوطنية. اللبنانية، ليست الرابطة الوطنية بين اللبنانيين.
سكان لبنان المقيمون فيه، اصحاب انتماءات ما فوق اللبنانية، وما دون اللبنانية. ميولهم الخارجية اصيلة. ناصريون وعروبيون وفلسطينيون واسلاميون وسعوديون وايرانيون وغربيون بأعلام مختلفة. انها انتماءات عابرة للحدود. اما في الداخل فانتماءاتهم إلى ما دون الدولة. ينتمون إلى دويلات طائفية ومذهبية وعائلية، ذات قدرة على منافسة الدولة الام، وعلى انتزاع السيادة منها… دويلات الطوائف اقوى من الدولة اللبنانية بعشرات المرات.
لبنان الرسمي، موزع خارجياً، بين محاور وسياسات متعادية، ومقّسم داخليا بين زعامات مزمنة ترسخت في “كانتونات” طائفية تسمى تأدباً، البيئات الحاضنة.
وعليه، إذا كان لبنان هذا كذلك، فليس امام اللبنانيين اجتراح معجزات، الدولة القوية، والسيادة التامة، والسلطة الشرعية، والمرجعية الدستورية، وبناء المؤسسات، وخفض الدين العام، وتأمين الكهرباء والماء والعلم والكتاب الخ…
كما انها ليست مؤهلة للاستقلال عن المحاور الخارجية، الاقليمية والدولية، المتمثلة راهنا، بمحوري السعودية وإيران.
لذا، على اللبنانيين أن لا يطمحوا كثيراً. طموحاتهم الاستقلالية والسيادية نكتة سمجة. لا اتهام للنوايا، بل كل الاتهام للادعاء الفارغ، وللأصوات المرتفعة، التي تعتبر “حزب الله” منتهكاً للسيادة، بعد تحرير الجنوب والجرود في اقل من عقدين.
نصيحة: تمرنوا على سياسة غض النظر. سيبقى يتامى المرحلة ينوحون على انتصارات لم يرغبوا بها. وسيبقى سلاح “حزب الله”، طالما اسرائيل باقية. ولا تعد هذه الحقبة بالشهور والسنوات، بل تحصى، عندما تحين الساعة، بعد حل المشكلة الفلسطينية، وتعود فلسطين لأهلها.
إلى أن يحين ذلك الموعد، اعتادوا أيها اللبنانيون، على العيش في “دولة” لا تشبه أي دولة في العالم.