طلال سلمان

سقوط مرة اخرى

لم تسقط الحكومة ولم يسقط المجلس النيابي خلال »المواجهة« المنظمة تماماً بين المعارضة البتراء والأكثرية العاقر.
السقوط سابق على الجلسة التي قيل إنها ستكون لطرح »الثقة« بينما الثقة الشعبية مهتزة، حتى لا نقول مفتقدة، بأطراف السلطة جميعاً والمجلس النيابي بين أطراف هذه السلطة في نظر الناس، وليس خارجها لأسباب سابقة على الاستجواب اليتيم ولاحقة به.
لم تسقط الحكومة المستحيل سقوطها إلا بسقوط المجلس…
أفليست هي »تحالف حكومات الأكثريات النيابية«؟!
كيف إذن يُطلب من مجلس هذه »الحكومات« المؤتلفة، بالرغبة أو بالاضطرار، أن يُسقط نفسه بنفسه؟
… وبديهي والحالة هذه أن يهرَّب النصاب، الذي يكتمل بقرار حكومات المجلس المؤتلفة ويُفقد بقرار الأكثريات ذاتها التي تُطالَب بأن تحاسِب نفسها علناً… بالصوت والصورة (بالألوان)!
لولا هذه الاستحالات لكان اللبنانيون قد عرفوا ما لا يجوز لهم أن يعرفوه.
لكانوا عرفوا، مثلاً، دخل الدولة الفعلي من الهاتف الخلوي… بينما لم تزدهم الجلسة اليتيمة، بكل ما طرح فيها من أرقام، علماً بطريقة فك اللغز المكين حول أرباح الخلوي.
ما طار من المال العام قد طار، في العقود، في إلغاء العقود، في تمديد العقود، في التشغيل، في تلزيم الإدارة… فإذا أضفنا ما سيطير في »التحكيم« لتبدى حجم الخسارة ثقيلاً جداً على خزينة مدينة أصلاً.
استمرت الخرافة التي تقول إن »الخلوي هو نفط لبنان«، بل هي تعززت عبر الجدل البيزنطي العلني بأرقامه المتباينة… في حين أن الخلوي بمداخيله ليس من خيرات الأرض، بل إن هذه المداخيل يدفعها كل الناس، مقيمين ومغتربين، وتجني منها الأرباح الفلكية شركات خاصة يملكها أفراد معروفون، لهم صلة وثيقة بالسلطة، متفاهمون في ما بينهم تفاهماً استراتيجياً ثابتاً لا يمكن فصم عراه: فالمشترك اللبناني يدفع أعلى الأسعار للخط وللاشتراكات… وهذه الأسعار »موحدة« لا تهزها المنافسة ولا المضاربة ولا اختلافات الولاءات السياسية.
وهذه »الوحدة في المصالح« تناقض مبادئ الاقتصاد الحر الذي اجتمعت على حمايته في جلسة الثقة الطائرة سيوف المعارضة والموالاة.
* * *
جلسة واحدة كانت كافية لكي ينكشف المستور، مرة أخرى.
لا المجلس النيابي هو المؤسسة الحاضنة للديموقراطية، ولا هو المرجع الأخير لمحاسبة »حكوماته المؤتلفة«. كيف تطالب المتخلي عن دوره بأن يحاسب غيره؟! كيف تطالب المجلس الحاكم بأن يحاسب »حكوماته« المالكة لقرار أكثريته؟!
ألم ترَ إلى النواب وهم يتثاءبون، ضجراً، وهم يقبعون في مقاعدهم صامتين، وكأن ما وجّه من اتهامات بارتكابات لا يعنيهم في شيء، أو أن ما طار من المال العام لا يخصهم ولا يعنيهم؟!
ألم ترَ إلى الرؤساء كيف فاروا وثاروا وغضبوا واستغضبوا وهددوا بالمقاطعة أو بالقطع، وقد نفذوا في اليوم الأول، ثم استدركوا الأمر فتداركوا النصاب في اليوم التالي وانتهت الحرب بأقل الخسائر الممكنة… وعادت »الحكومات« إلى مجلس وزرائها المشترك وكأن شيئاً لم يكن.
وإذا كانت المواجهة بالأرقام في مسألة محددة قد انتهت بلا نتيجة محددة، وظل الغموض، وبالتالي الشبهات والاتهامات بهدر المال العام (أو بنهبه!) قائمة، فكيف يمكن الاطمئنان إلى أن مثل هذه »المؤسسات السلطوية« مؤهلة لأن تواجه باسم الشعب المخاطر المصيرية المحدقة بلبنان والمنطقة.
أبسط من هذا وأخف حملاً: هل يمكن لأي مواطن أن يحلم مجرد حلم بأن طبيعة مثل هذه »المؤسسات السلطوية« تسمح بإجراء انتخابات بلدية نزيهة حقاً؟
استطراداً هل يمكن لأي مواطن ان يحلم مجرد حلم بأن مثل هذه المؤسسات محتكرة السلطة سوف تسمح، إذا كان لها القرار، باعتماد قانون انتخابي يكفل الحد الأدنى من التمثيل الصحيح للبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم وطموحاتهم إلى الديموقراطية؟!
كيف تطلب الديموقراطية ممن لم يعرفها، ولم يمارسها، ولا هي كانت طريقه إلى موقعه الممتاز؟!
آخر وأطرف إنجازات هذه المؤسسات هو الجدل الفقهي الذي شجر في ما بينها مؤخراً حول الدستور، والذي تم احتواؤه بأن طلب من المجلس النيابي تفسير الدستور!
مفهوم ان تكتشف المؤسسات الديموقراطية في بعض الدول ان دستورها قد بات متخلفاً عن العصر، أو قاصراً عن تلبية الاحتياجات أو الطموحات الديموقراطية للشعب.
أما ان يخطر ببال بعض السياسيين، في لحظة ما، ولغرض ما، كأن يعفو أو يدين هذا الشخص أو ذاك، فيلغي مؤسسة دستورية قائمة (ولو ان مدتها القانونية قد انتهت منذ أمد طويل) أو يتجاوزها ليطرح فجأة وبغير سابق إنذار مسألة الدستور على البحث مجدداً بحجة انه غير واضح بما يكفي، ولا بد من »تفسيره« قطعاً لدابر الالتباسات وسوء النية أو سوء الاستخدام!
* * *
لقد منحت جلسة عدم طرح الثقة بحكومات المجلس المؤتلفة اللبنانيين فرصة ثمينة: إذ نبهتهم إلى موت الحياة السياسية.
وفي غياب الحياة السياسية، بأصولها وضوابطها الديموقراطية، من الطبيعي ان تتحول المواجهات بين ما يمكن اعتباره »معارضة« وبين »حكومات الأكثرية المؤتلفة« إلى خليط من الادعاءات والاتهامات التي لن تجد من يدقق بها فيؤكد جديتها ويحاسب عليها أو يتجاوزها مؤكداً الثقة بالموثوق.
لقد كانت مجرد ساعات من المتعة: تفرجنا على بعض »أشكال« الديموقراطية الكلامية… ثم عاد أهل الحكم إلى ممارسة لعبتهم الجهنمية ولا حساب!

Exit mobile version