طلال سلمان

سقوط سياسة

تلاشت السياسة أو تكاد، في لبنان وبامتداد المشرق العربي، على الأقل، وسُحبت لغتها من التداول مخلية المساحة للتعابير الطائفية والمذهبية صريحة، مباشرة حتى الفجاجة والاستفزاز المقصود أحياناً، خصوصاً متى نُسبت أو صدرت مباشرة أو وُضعت على ألسنة المرجعيات المحصَّنة بعصمة منزلة على مواقعها، فإن هي مُسَّت كانت الفتنة التي لا تبقي ولا تذر.
الظاهرة في لبنان قديمة، ولكنها كانت محدودة ، ثم إنها كانت امتيازاً لبعض الطوائف دون غيرها، ولم تكن تشغل كامل المساحة فوق المسرح السياسي، مباشرة أو عبر القيادات التي كانت سياسية و حزبية وأحياناً وطنية ، وفي أحيان أخرى تقدمية وربما ثورية و انقلابية ، ثم ارتأت أن تستعير من رجال الدين القلنسوات والعمائم، وأن تصادر أدوارهم المقننة بأن تستتبعهم ليصيروا بمثابة الكورَس ينشدون خلف المغني للزعيم بترداد اللازمة وإضفاء شيء من المشروعية الطائفية أو المذهبية على كلامه، باعتباره المعبّر عن كرامة الطائفة وحامي حقوقها، وعند الهيجا سيفها البتار وقائدها المظفر وصائن مكانتها والمهابة.
وبرغم اختلاف الدرجة باختلاف مكانة هؤلاء المراجع، كل في طائفته، فقد احتل بضعة من رجال الدين واجهة القيادة، في الفترة الأخيرة، أو أنهم أُحلوا فيها لإسباغ شيء من الحصانة على مقولات أو أطروحات أو نظريات أو بدع الزعماء، مما كان غير مقبول ، بل ومرفوضا وخارج التداول العام في الماضي القريب، لأن القائلين بها موصومون بالتطرف أو متهمون بنقص في وطنيتهم وتحسسهم بالمسؤولية العامة.
يمكن التأريخ لهذه الموجة التي ترتفع بانتظام، وبفعل فاعل، بسقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي. فمع سقوط بغداد صارت الطائفية سلاحاً شرعياً لمختلف الأطراف، خارج لبنان كما في داخله: لمساندي الاحتلال والمروّجين له والمسبغين عليه صفات المحرِّر ، وكان جيران العراق في الطليعة منهم، كما للمتضررين منه الذين لم يروا فيه إلا إسقاطه نظام صدام حسين وتمكينه الآخرين من السلطة… كذلك كان هناك المستفيدون من الاحتلال مباشرة، والمتوهمون أن من يدمّر البلاد كلها، بعمرانها وأهلها، بحاضرها ومستقبلها، سيرأف بهذه الطائفة أو تلك، بذريعة الإنصاف، كأنه رسول العدالة ، أو أنه سيحابي هذا المذهب أو ذاك استنقاذاً للوحدة الوطنية، وكأنه سليل بناة مجد العراق القديم.
وكان واضحاً أن شيئاً من الانقسام الطائفي المضبوط إنما يخدم مشروع الاحتلال، داخل العراق وفي المنطقة من حوله، التي ستهب دولها لنجدة الاحتلال ومناصرته أو تبرير جرائمه، بذريعة أنه عدو عدوها الإيراني وبالتالي فهو صديقها .
ولقد نجح هذا التكتيك الذي كان من السهل العثور على مسوغاته أو روافعه في حقبة الطغيان السابقة على الاحتلال الأميركي.
كما أن هذا التكتيك كان ضرورة لتزوير طبيعة الصراع بتصويره وكأنه مصادرة شيعية لحكم العراق من أصحابه السنة ، بدعم إيراني مباشر، مما يوسِّع الإطار فيصبح ممكناً إضافة العنصر القومي إلى العنصر المذهبي بمعزل عن أن العراقيين شعب عربي واحد، وأن الشيعة منهم والسنة كثيراً ما يعودون إلى العشائر والقبائل ذاتها، من حيث النسب.. ثم إن قضيتهم الوطنية واحدة، أي تحرير بلادهم من الاحتلال، وإعادة بناء دولتهم المستقلة.
… وهكذا اتسعت المساحة لإدخال أقطار الخليج في الصراع، أي لتأمين أسباب الاشتباك العربي الفارسي، خدمة للاحتلال الأميركي، ومعه مباشرة وفي وقت واحد للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
[ [ [
لقد سقطت أو أُسقطت السياسة في لبنان، كما في معظم أقطار المشرق العربي،
صار الحوار طائفياً أو مذهبياً مكشوفاً. لم تعد ثمة ضرورة للتمويه.. فالكل طائفيون ومذهبيون، وإلى جهنم الوطنية والوطنيون وحركات التحرر والتقدمية والتقدميون. كل هذه بضاعة قديمة لا تنفع وليس لها زبائن في الشرق الأوسط الجديد .
وفي غياب السياسة يمكن أن يصبح الاحتلال نصيراً ومعيناً ومصدر دعم لاستخلاص حقوق الطائفة المغبونة، أو يمكن أن يصير مباشرة أو بواسطة مجلس الأمن محقق العدالة والديموقراطية من خلال إعطاء كل طائفة حقها… أما الوطن فله الله.
على أن القيادة ما تزال من الحقوق المطلقة للزعيم، الذي يعرف كيف يحقق مطامح الطائفة ومصالحها، وبالتالي فليس من حق المرجع الطائفي أو المذهبي أن يجتهد وأن يكون له رأيه المستقل في أي أمر، خصوصاً إذا ما هو تورّط فأدلى برأي لا يقرّه عليه الزعيم ولا يقبله.. عندها عليه أن يتراجع فوراً أو يعرّض نفسه لقدر من المهانة والتسفيه. القرار لصاحب القرار، وللطائفة سيد واحد، والتعددية بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار…
والسياسة ضلالة، فليبتعد عنها أصحاب النيافة والسماحة، إلا إذا طلب إليهم القادة أن يقتربوا ليرفعوهم إلى السدة مع بركاتهم والأدعية والصلاة لفوزهم على الآخرين.. كل الآخرين، والوطن أجمعين!

Exit mobile version