طلال سلمان

سقوط جمهورية طائفة

مع كل انتخابات رئاسية يتحوّل لبنان إلى مزيج من السيرك وحلبة المصارعة!
تأتي إليه دول العالم جميعاً، كبراها ذات الهيمنة، و المتوسطة المتبرّعة أو المتطلّعة إلى دور الوسيط ، بذريعة طرد شياطين التطرّف منه. وفي كل مرة يكون لهذه الشياطين اسم مختلف، وإن أصرّت الدول على أنها هي هي: العروبة أو الوطنية، قضية فلسطين أو مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، العدالة الاجتماعية والديموقراطية أو الاعتراض على طائفية النظام وتخلّفه المعادي بالضرورة للمساواة بين الإخوة باعتبارهم جميعاً مواطنين.
تأتي إليه الدول جميعاً فتزدحم وتتزاحم فوق أرضه الضيقة، تتصارع وتتعارك بأبنائه وعليهم وفيها مَن يريد أن يبيع ومَن يريد أن يشتري ومَن تجذبه متعة الفرجة على مصارعة الثيران… الدولية والإقليمية وما بينهما!
ويبدأ العرض الكاريكاتوري المهين لكرامة اللبنانيين عموماً، إذ يتحوّلون في نظر الشعوب الأخرى إلى أدوات أو إلى قطع أثرية معروضة للبيع في مزاد علني. تُسقط عنهم هويتهم الوطنية الجامعة، تُسقط دولتهم، تُسقط ادعاءاتهم حول التقدم والتحضّر والعراقة في التجربة الديموقراطية ويتحوّلون في نظر الشعوب الأخرى إلى طائفيين ومذهبيين وأتباع للآخرين يتناحرون ويتقاتلون ويقتتلون لحساب الغير أو لحساب الزعامات الخالدة أو الطارئة أو المستولدة بقوة الأجنبي ولحماية مصالحه، أو بقوة المال الذي هو في المحصلة بعض تلك المصالح.
تسقط، بشكل خاص، هيبة الطائفة المارونية وكرامتها والدور التنويري الذي ابتدعه أبناؤها لأنفسهم ولعبوه بنجاح في مطلع القرن الماضي برؤاهم المستقبلية وأفكارهم التي أخذوها عن الغرب فعرّبوها مستعينين بتاريخ أهلهم في منطقتهم، وأعادوا اكتشاف شخصية الأمة ووصفوها بأقلامهم ودافعوا عن حقها في أن تكون، وفي أن تتوحّد…
مع سقوط الطائفة المارونية من موقعها الممتاز والمجسّد للتوافق الوطني، ومن خلفه التوازنات العربية الدولية المتصلة بهذا الكيان الفريد، تنفتح أبواب الجحيم في الوطن الصغير! فمع سقوط التوازن الدقيق تنهض كل طائفة لحماية موقعها من أطماع الطوائف الأخرى، التي تتمترس خلفها الدول فإذا لبنان بعنوان رئاسة جمهوريته تحديداً أرض صراع دولي، يتصدّره الأميركي (ومعه الإسرائيلي) في حين ينقسم من حوله العرب، وتتقدم الدول الإقليمية لتشارك بذريعة حماية أمنها، فإذا لبنان دار حرب عالمية مفتوحة!
يسألك مَن تلتقي من المهتمين العرب أو من فضوليي الدبلوماسية: ألم تتفقوا بعد؟! إن لم تتفقوا فلسوف تؤخذون إلى الحرب. كنا نفاخر بكم، صرنا نشفق عليكم، والشفقة موجعة! وكنا نهتم لأمركم، أما وأنتم مسلِّمون أموركم لغيركم فأنتم تفقدون منزلتكم الممتازة وتتحوّلون إلى مثال عمّن يدمّر نفسه بنفسه، ولا فرق إن كان لحساب الغير أم عبثاً!
تشعر أن الجمهورية في لبنان، كدولة، تتصاغر يوماً بعد الآخر، وعلى مدار الساعة.
… وتتصاغر، بالتالي، رئاسة الجمهورية، التي يجتمع عليها أهلها فيفشلون، ويفترق من حولها العرب فيتخاصمون، وتتصارع عليها الدول فتخرج من أهلها الذين يغرقون في هوانهم ثم يتساءلون: هل تستحق رئاسة الجمهورية كل هذا العناء؟!
في السنوات القليلة الماضية، ونتيجة للصراعات والأخطاء والخطايا، تبدّت هذه الدولة الصغيرة وكأنها الشغل الشاغل للعالم، بدوله الكبرى، أساساً، والدولة الأعظم على وجه التحديد، بحيث صارت على جدول أعمال مجلس الأمن في معظم جلساته، واستصدرت قرارات تنظم مسارب الماء والهواء وأصول العلاقات الزوجية والمصاهرات بين الطوائف والمذاهب ودول الجوار إلخ…
ثم نزلت الإدارة الأميركية إلى الساحة بخيلها ورجلها وسفيرها الفصيح، واتخذت، بوعي، قرارها بمحاربة كل من صنّفتهم أعداء سواء من أهل الداخل أو من دول الإقليم، وحوّلت بهذا لبنان إلى خط أمامي لكل جبهاتها المفتوحة بنار مصالحها ومطامعها ومشروع هيمنتها على الكون. فهي تقاتل في لبنان كخط خلفي لقوات احتلالها في العراق، وتقاتل كخط أمامي لحليفها الإسرائيلي في فلسطين، وتقاتل التحالف الإيراني السوري مفترضة أن حزب الله الطرف الثالث فيه.
… وهكذا تجمّعت كل الحروب، المعلنة أو الصامتة، في معركة رئاسة الجمهورية. وكاد اللبنانيون يتحوّلون إلى شهود زور، ينتظرون أن يتفق الآخرون فيكون لهم رئيس، ويخافون أن يختلفوا فتطير الجمهورية.
وفي انتظار ذلك اليوم الأغر عليك أن تقبل من إخوانك العرب ، المشغولين عنك أصلاً، نظرة الإشفاق والقرار الخطير: لننسَ الدولة في لبنان ولنتعامل مع اللبناني كفرد متميّز بقدراته.
في المقابل يتصرّف الأميركيون ومَن معهم بمنطق: لننسَ المواطن في لبنان ولنتعامل مع ما تبقى من الدولة ومَن تبقى فيها وكأنها مصدر الشرعية الضرورية لتغطية القرار الأميركي.
وبهذا ننتهي بلا دولة وبلا شعب!
[ [ [
في دبي، وعلى هامش مؤتمر المعرفة الأول الذي نظم لإطلاق مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم ، التقيت الأمين العام لجامعة الدول العربية الصديق عمرو موسى فبادرني: تعال معي إلى الخرطوم! لا تخف، فلن يحدث في غيابك شيء!
… ولم أذهب لأنني ما زلت أكابر فأدعي أن اللبنانيين شعب وأن لهم جمهورية سيحافظون عليها بديموقراطيتها المبتدعة كصيغة مانعة للحرب بين الطوائف، ولكنها مع الأسف لا تمنع الحروب داخل كل طائفة، ولا سيما في طائفة فخامة الرئيس الذي كلما حان موعد انتخابه بالتوافق العجائبي ذهب شيء من قيمة هذه الجمهورية.
وفي هذه اللحظة تتبدّى المأساة كاملة: فقد ذهب الكثير من اعتبار الطائفة التي كانت قائدة وذهب معه الكثير من وهج هذه الجمهورية التي افترضها البعض أو أنهم أرادوها قدوة فسقطت في الامتحان وأسقطت معها أو تكاد لبنان بشعبه المبدع إلا… في السياسة، كما يشهد السقوط المدوي للوطن الرسالة!

Exit mobile version