طلال سلمان

سفير سنة 23

ما أبعد المسافة بين 26 آذار 1974 واليوم: انها، بالاحداث الخطيرة والتحولات الهائلة التي شهدتها، تتسع لعصر كامل، يختلف عما سبقه في كل شيء تقريبا، ويمهد لاختلاف اشد في الزمن الآتي يفرض على الانسان ان يعيد التعارف مع ذاته والتعرف الى موقعه داخل دنياه الجديدة.
لقد أصاب التغيير كل شيء، وعلى كل مستوى، في المسافة بين العدد الاول وهذا العدد من »السفير«، ورقمه 7346، عدا المعطل والمصادر في المطبعة والممنوع بحواجز المسلحين ورصاصهم من الوصول الى القارئ في الشارع المواجه.
تغير كل الناس في كل البلاد: تغيرت المفاهيم والقيم، تغيرت طبيعة الصراع وهوية اطرافه، تغيرت وسائل التعبير وادوات المعرفة،
والاهم في ما يعنينا، كصحافيين، الثورة الهائلة في عالم الاتصال والتواصل والتي جعلت الكون عبر الانترنيت واوتوستراد المعلومات »قرية صغيرة«.
لقد استقبلت »السفير« عند صدورها وكأنها »حزب« أو مشروع حركة سياسية مجددة، وعاملتها الانظمة العربية والقوى السياسية وكأنها »خصم« او »حليف«، ومن موقع »التيار«، وليس كصحيفة يومية تلاقى في اطارها بعض الحالمين بالتغيير وبعض المبشرين له من الصحافيين المعتزين بشرف الانتماء الى مهنة تنويرية بطبيعتها وذات صلة حميمة بقضايا الانسان: الحرية والعدل والتقدم والخبز مع الكرامة.
اليوم و»السفير« تدخل عامها الثالث والعشرين، نعيش، نحن العاملين فيها، حوارا مفتوحا ومسكونا بالقلق حول »لغة« اليوم والغد، وحول دور الصحافة والصحافي في ظل التحولات السياسية الخطيرة والثورة العلمية المؤهلة لاصطناع عصر جديد لانسان القرن الحادي والعشرين.
} بين الاسئلة العديدة التي تطرحها »السفير« على ذاتها ما يتصل بدور الاعلام المكتوب عموما، والى اي حد فقد وهجه وقدرته على التأثير على الرأي العام و»صناع القرار« في هذا الزمن الذي بات فيه »الوقت« واحدا من اهم عناصر الاستثمار؟!
في الماضي، كانت المنافسة محصورة بين الصحيفة والمجلة: اي بين الوسيلة الاخبارية »السريعة«، وبين المطبوعة التي تعتمد التحقيق والتحليل والمحاورة والمنوعات التي تغطي قطاعات واسعة من الثقافة الى الفنون عموما الى أسباب التسلية والمكتشفات العلمية التي كانت تعامل »كطرائف«.
الآن صارت الصحيفة مطالبة بأن تختزن مجلة كاملة، الى جانب صفحاتها الاخبارية التي ستظل تبدو باهتة و»عتيقة« اذا ما قورنت بالخدمة السريعة وعلى مدار الساعة التي توفرها شبكات التلفزة العالمية والاذاعات المعززة خدمتها بشبكة مكلفة من المراسلين.
لكن دور الصحيفة ما زال محفوظù، لم تأخذه منها اية وسيلة اعلام او اتصال اخرى، اللهم اذا مارسه الصحافيون بالكفاءة المطلوبة.
فالصحيفة، وحدها المؤهلة لحمل وتعميم التيارات الفكرية، ولطرح القضايا الجدية، واطلاق الحوار حولها، وتعميق المفاهيم، والتأثير على وجدان قرائها بما يقيم في ما بينهم نوعù من الرابطة او التقارب في النظرة، ويسهل تكوين »رأي عام«.
ان وسائل الاتصال الاخرى »فردية« بطبيعتها، و»غير محاورة«، واسرع بكثير من ان تستطيع التأثير على الوجدان والقناعات. انها تخاطب العين او الاذن اكثر مما تخاطب العقل، بل انها في حالات كثيرة تعطل العقل او تشله بالاجتزاء المشوه او بالابتسار المتسرع الذي قد يُخرج الحدث عن سياقه او قد يعطيه دلالة ليست له.
} وبين الاسئلة ما يتصل بدور الجريدة بين »المحلي« و»العربي« و»الخارجي«.
فالنزوع العام هو العودة الى »المحلي« في كبريات صحف الغرب، مع التبدل الذي اصاب مفهوم »السياسة« نفسه..
ولكن: اين التخم بين ما هو محلي وما هو عربي، في لبنان كما في سائر الاقطار العربية؟!
هل الاحتلال الاسرائيلي شأن محلي؟! وهل اسرائيل داخل فلسطين غيرها في لبنان؟! وهل الجولان امر خارجي؟! واستطرادù: هل المفاوضات شأن محلي ام عربي ام دولي؟ والاقتصاد… اين الحدود فيه بين ما هو محلي وما هو عربي، بالذات، وما هو خارجي؟! هل المطار الجاري توسيعه والاوتوسترادات المخطط لتنفيذها مرافق داخلية؟!
لكن القارئ، الآخذ بالانفضاض عن »السياسة« بمفهومها التقليدي يطلب من الصحيفة اشباع اهتماماته الاخرى: الرياضة، الشباب، البيئة، الصحة، التعليم، فرص العمل، مجالات التوظيف والاستثمار الخ… وهذا حقه.
}تتصل بهذا مباشرة جملة من الاسئلة حول متغيرات الثقافة السياسية العربية، ومنها:
أي سقف للصراع في المنطقة؟
وهل ما زال الصراع الاساسي مع اسرائيل فعلاً، ام تراجع هذا الصراع التاريخي والذي سيظل مفتوحù مخليù المساحة امام صراعات اخرى، عربية عربية ودائمù ذات بعد دولي، ام صراعات فيها اسرائيل وبعض العرب في جانب واسرائيل وعرب آخرون في الجانب الآخر؟! او هو صراع على مدى القرب والبعد عن اسرائيل التي يراها بعض العرب مختصرù للولايات المتحدة الأميركية أو وكيلاً اقليميù لها، وقد يرى فيها البعض الآخر منافسù للأميركيين ويتخيلون »تحالفù« معها في المستقبل لرفع الهيمنة الأميركية عن المنطقة »التي يجب ان تكون لاهلها«؟!
ثم أي معنى الآن للموالاة؟ وأي معنى للمعارضة؟! وما هي قوى هذه المعارضة وآفاقها وما هي مرتكزات خطابها السياسي وشعاراتها الآتية من المستقبل أو الذاهبة إليه؟!
عند صدور »السفير«، كان سهلاً أن تقسم العرب إلى »ثوريين« و»رجعيين«، إلى قائلين بالكفاح المسلح وسيلة للتغيير، وإلى منادين بالاشتراكية والتحالف مع »المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم«.
كانت الدنيا »أبيض« و»أسود« ومعسكر عدم الانحياز.
ونحن اليوم في عصر الرماد أو ذلك البياض الثلجي الذي يغشي العيون فلا ترى.
فهل انتهى زمن المعارضة والاعتراض؟!
هل باتت الموالاة العمياء قدرا مفروضا في عالم القطب الأوحد والنظام الأوحد والسلطان الوكيل الوحيد في كل قطر، شرقù وغربù وفي الشمال كما في الجنوب؟!
هل انقرضت السياسة وصارت مهنة من الماضي؟!
هل تراجع اهتمام الناس بالسياسة في حين صارت السياسة تتحكّم بمصائر الناس وأكثر من أي يوم مضى؟!
إذا كان هذا صحيحù، كما توحي المؤشرات على السطح، فإن وظيفة الجريدة تكتسب بعدù مشرفù: أن تصالح المواطن مع السياسة. أن تصالحه مع الشأن العام. وأن تساعد على عودته إلى دائرة الاهتمام بمصير وطنه وعائلته فيه.
وفي ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي فلا بد من التوكيد على حقيقة بسيطة مفادها:
إذا كان قيام إسرائيل، ككيان، زلزالاً ترك آثاره العميقة على كل هذا الوطن العربي الكبير، فخلخل الكثير من المرتكزات ومن المسلّمات وأسقط الكثير من الأوهام والأحلام معù، فإن مشروع »السلام« معها هو زلزال أخطر في نتائجه وفي تأثيره على هذه الدنيا العربية، خصوصù وأنها تكاد تكون الآن بغير »مشروع«، بغير »مرجعية«، بغير قائد أو قيادة، وتفتقر إلى الحد الأدنى الأدنى من التضامن.
إن المخاطر تتهدد ما هو أبعد من السياسة: الاقتصاد العربي، الثقافة العربية، الوجدان العربي، الوعي العربي، وبالتالي الحاضر العربي والمستقبل العربي.
وفي ما يعني لبنان فإنه يعيش الآن بعض أخطر لحظاته وأغناها، بينما تعاني حياته السياسية اليومية من أمراض فتاكة أولها »الخواء« وآخرها »الإحباط« وفي القلب منها »الترويكا« ونظام المحاصصة الخ..
ان لبنان يعيش واحدة من أغنى لحظاته بالسياسة: لبنان المقاومة، لبنان المفاوضة، لبنان الانتخابات، لبنان وتحدي السلام..
ولا بد من تجديد الحياة السياسية فيه، لا بد من زج الناس في العمل العام، من مصالحة المواطن مع السياسة، لكي لا تنتهي هنا أيضù الحرب من قبل أن تبدأ.
وللصحافة دورها الحيوي والذي لا بديل منه في هذا المجال،
السؤال الذي تطرحه »السفير« على نفسها هو:
كيف نكون جريدة السلام في لبنان؟! كيف نتحرر من خطوط التماس التي القتها الحرب على صورتها التقليدية؟!
ثم: كيف نستعيد صورتنا الاصلية كجريدة، لا كحزب، يجتهد فيها مجموعة من الصحافيين لاستيلاد احلام جديدة، عبر العمل اليومي المتحرر من العصبوية والفئوية والحدة في المعارضة من دون السقوط في لجة الموالاة السمجة والنفاق الممجوج؟!
اننا نحاول.
وعهد السنة الثالثة والعشرين ان نستمر في المحاولة: نغني الحوار الوطني العام بالآراء والاجتهادات، ونعزز معرفة المواطن بالمعلومات والدراسات والتحليلات واستطلاعات الرأي، ثم نترك له ان يقرر ونكون معه الى جانبه، فلا يستشعر وحشة ولا يتملكه الخوف اذا ما أحس انه وحده.
شعارنا، اليوم: لست وحدك..
وكل عام وانتم بخير.

Exit mobile version