طلال سلمان

سفير زعيما معارضة معارض حاكما من قبل ومن بعد

يظل السفير الأجنبي دبلوماسياً حتى يصل إلى لبنان فيتحوّل إلى مسؤول سياسي في هذا البلد البلا داخل، بل إنه قد يصير زعيماً أو ترى فيه بعض الجماعات السياسية أو تتخذ منه قائداً وزعيماً وموجهاً ومرشداً.
وقد يستمرئ بعض السفراء هذا الخروج على الأصول والأعراف الدبلوماسية، وقد يغريهم »محازبوهم« من السياسيين اللبنانيين بالاستهانة بالدولة وحكمها، فيندفعون إلى أبعد مما هو مقبول أو جائز في تعامل دبلوماسي أجنبي مع دولة جاء إليها ممثلاً شخصياً للرئيس لدى الرئيس، في البلد المعني، وليس لدى معارضيه الذين قد يتطرفون إلى حد المطالبة بخلعه.
من الطريف، والحالة هذه، أن نجد بين قادة المعارضات اللبنانية المختلفة سفيرين بحجم زعيمين دوليين: الأول هو الأميركي إمبراطور الكون، والثاني هو الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي طالما اعتز بصداقة لبنان وطالما عبّر اللبنانيون عن فرحتهم بعودة فرنسا إليهم بوجه الصديق الديغولي بعدما ظلت لفترة طويلة ترتدي قناع »العدو« محتلاً استيطانياً (كما في الجزائر) أو محتلاً مموهاً بثياب الانتداب كما في لبنان وسوريا.
هذا يعني، في جانب منه، أن المعارضات »دولية«، بينما الحكم يبدو مرتبكاً في مواجهة العديد من مسؤولياته »المحلية«.
وليست هذه هي المفارقة الوحيدة في مسلك السفيرين الممثلين لدولتين كبيرتين، إحداهما تكاد تتحكّم بشؤون البشر في أنحاء العالم كافة، والثانية صاحبة دور فكري تنويري تاريخي لا ينكره أحد، إضافة إلى رصيد محترم من الاعتراضات على مشاريع الهيمنة الأميركية خفتت مؤخراً حتى كادت تختفي.
بين المفارقات أن السفيرين الواصلين حديثاً إلى لبنان، مع سبق للأميركي، يعتبران أن تاريخ لبنان يبدأ بالقرار 1559، ويكاد ينحصر في مضامين بنوده التي اشتركت دولتاهما في صياغتها.
من هنا فقد وسّعا المدى الحيوي لحركتيهما وبياناتهما وتصريحاتهما من السياسة إلى الاقتصاد، ومن العلاقة مع الفلسطينيين إلى الموقف من إسرائيل، ومن الانتخابات الرئاسية إلى الانتخابات النيابية (بغير إغفال للبلديات)… ومن »تظاهرة المليون« ومن شارك فيها وبأمر مَن، إلى الدور السوري في لبنان ومدى انسجام معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق مع اتفاق الطائف، وبالتالي مع سيادة لبنان واستقلاله إلخ… هذا إلى جانب تصنيف المقاومة الوطنية الإسلامية ممثلة ب»حزب الله« وهل هي ميليشيا وإرهاب أم جزء لا يتجزأ من النسيج اللبناني.
ومع أن السفير الفرنسي أكثر حصافة ورصانة ودقة في تصريحاته (واعتراضاته) من السفير الأميركي، إلا أن مناخ الاحتدام السياسي الداخلي قد يسحب الكلام بعيداً عن مقاصدهما، وقد يحوّل »النصيحة« إلى »تنبيه« و»التحذير« إلى »إنذار«، وكل ذلك »خروج على الأصول«، فضلاً عن أنه مرفوض من جانب أي شعب في أكثر الدول تخلفاً وضعفاً وحاجة إلى المساعدات الأجنبية.
بين المفارقات أيضاً أن هذا الدفاع الحار والحادّ عن »الديموقراطية« في لبنان من شأنه أن يحرج العديد من المعارضات التي ترفع شعارات الديموقراطية مع لحظة خروجها من الحكم، ليس إلا، وبهدف العودة إليه (على علاته)… فلا هي كانت ولا هي ستكون ديموقراطية، أقله بالمعنى الذي يقصده أو يريده السفيران. ثم أنها قد تستنفر جماهيرها وقد تحمل السلاح لإسقاط أي نظام ديموقراطي حقيقي.. يبعدها عن السلطة.
فالديموقراطية اللبنانية فريدة في بابها، وهي »صنيعة« الزعماء والأقطاب والشعار الأثير والأقرب إلى قلوبهم، فإذا ما نزلت إلى الشارع وأمسكت »الغوغاء« بتلابيبها وأرادت أن تحققها فعلاً، وعبر صناديق الانتخابات، اجتمع عليها الحاكمون والمعارضون وظلوا يضربونها حتى تقضي نحبها على أعتابهم… حتى لو كان البلد يعج ب»المراقبين الدوليين«..
ومؤكد أن السفيرين، الحديثي التعرف إلى التقاليد الديموقراطية اللبنانية سيجدان نفسيهما في تعارض جدي غداً، إذا ما وصل بعض قادة المعارضات إلى السلطة بالأساليب ذاتها التي يعترضون عليها اليوم، والتي هي بعض أسرار زعاماتهم وبعض مسوّغات نفوذهم السياسي والإداري والمالي إلخ.
فمَن في السلطة اليوم كانوا إلى ما قبل شهرين معارضين، وكثير من معارضي اليوم كانوا يتمتعون بكل خيرات السلطة… بل إن كثيراً من السياسيين اللبنانيين احترفوا المعارضة من مواقعهم في الحكم، كما أن كثيراً من المعارضين يتحدثون بلهجة الحاكم حتى وهم خارج السلطة..
ربما لهذا تتعدد قراءات المعارضات للقرار 1559 كما لأهداف السياسة الأميركية، أو لسر التحوّل في الموقف الفرنسي. فكل يقرأ من موقعه وبعين مصالحه، ولهذا تندر القراءة الصحيحة، مع تعدد الأغراض وتمايزها بأكثر مما تتعدد اللغات أو تتمايز.
وقد تأتي لحظة في غد قريب نسمع فيها من بعض قادة المعارضة اعتراضات جدية على »تدخل« السفراء الأجانب في الشؤون الداخلية، تصل في مضمونها إلى أعنف ممّا حمله نص المذكرة الشهيرة التي أصدرها رئيس الحكومة منبهاً فيها الدبلوماسيين المعتمدين في لبنان إلى ضرورة مراعاة الأصول، والتي تجاوزها الجميع، في الحكم والمعارضة والجسم الدبلوماسي، على حد سواء..
ملاحظة أخيرة: لو كان في لبنان حكم سويّ لانتفت الحاجة إلى مثل هذه التنبيهات والمفارقات والاعتراضات على الخروج على المألوف.

Exit mobile version