أخذت اللبنانيين همومهم الثقيلة بعيداً عن تطورات بالغة الأهمية في محيطهم القريب يدل سياقها على أن هذه المنطقة ليست سجينة القرار الأميركي بالمطلق، وأن الفشل المدوي للإدارة الأميركية يفتح الباب لتحولات أو أقله لتعديل في السياسات تمليه المصالح… وهي هائلة الحجم والتأثير معاً.
وإذا كان اللبنانيون، بقواهم السياسية مختلفة المناهج والتوجهات، قد توافقوا ضمناً، وبغير أن يتلاقى أقطابهم على التعامل مع الذكرى الثانية لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري على أنها مناسبة وطنية كبرى تجمع من تفرّق، وتقرّب بين المختلفين، فإن هذا المناخ قد يساعد على تسريع الوصول إلى تسوية يحتاجها الجميع لسد الطريق أمام المخاطر المصيرية التي أطلت برأسها، قبل أيام، فأنذرتهم جميعاً بكارثة مفتوحة على الجحيم.
لعلهم إذا ما عادوا إلى وعيهم ينتبهون إلى دلالة التطورات في محيطهم، ويستدركون غيابهم، فينتبهون إلى ضرورة الحضور ، باعتبارهم طرفاً معنياً بالتحولات التي تشهدها منطقتهم والتي ترسم صورة مغايرة لما أرادته وحاولته الإدارة الأميركية في مغامراتها البائسة التي دفع ويدفع العرب ثمن فشلها من دمائهم ومن مستقبلهم الذي بات غائماً بل معتماً حتى ليصعب التكهّن بمساره.
ومع أن التزامن غير مقصود، قطعاً، بين زيارة الرئيس الروسي بوتين للسعودية، وهي الأولى في التاريخ الحديث، وبين احتفال إيران بالذكرى الثامنة والعشرين لثورتها الإسلامية، إلا أن هذه المصادفة تفرض نفسها على أية قراءة للتطورات المحتملة للأحداث وموقعها في سياق العلاقات الدولية في المنطقة.
لقد عادت روسيا إلى قلب الجزيرة العربية، من باب المصالح المشتركة، بعدما أوصد التعارض العقائدي الباب في وجهها لعقود طويلة.
وبمقدار ما كانت تهمة الإلحاد الشيوعي سداً في وجه الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه فإن رفع راية الثورة الإسلامية في إيران قد فتح لها في العقدين الماضيين أبواباً كثيرة في هذه المنطقة التي ما زال للشعار الديني تأثيره الفعال على شعوبها وخياراتهم السياسية.
وفي حين تكتسب الإدارة أو السياسة الأميركية مزيداً من ملامح العداء للإسلام والمسلمين، من العراق تحت احتلالها إلى فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، إلى مساندة الحرب الإسرائيلية على لبنان، فإن حكم الرئيس بوتين الذي أعاد الاعتبار إلى الأرثوذكسية من دون أن يجعلها قاعدة دينية للسياسة الروسية، قد اجتهد وما زال يزيد من اجتهاده لكي يقدم بلاده إلى المسلمين في صورة الصديق والمساند في وجه الهيمنة الأميركية التي تعمل لمحاصرة روسيا الجديدة، بالدول الإسلامية التي كانت ضمن إمبراطوريتها الشيوعية ثم خرجت عليها بعد سقوط النظام الشيوعي لا قبله.
ومن قبل ضاعت فرصة تاريخية ثمينة جداً لبناء علاقة متينة بين العرب والإيرانيين العائدين في اتجاههم بالثورة الإسلامية، كان من شأنها أن تبدل مسار الأحداث في هذه المنطقة من العالم.
اليوم تجري محاولة جديدة لضرب العلاقات بين العرب والإيرانيين بالتركيز على شيعية إيران وثورتها، بما يغطي على إسلامها، بل ويجعل من تأثيرها في محيطها توسعاً على حساب أهل السنة… بحيث يتبدى وكأن الاحتلال الأميركي للعراق يناصر شيعة إيران ضد السنة العرب، بما يزوّر ليس الوقائع بل التاريخ كله.
الأخطر أن هذا المنطق يروّج لفتنة جديدة حول أحداث عتيقة في التاريخ الإسلامي، لن يفيد تصحيح ما تمّ ترويجه عنها عند طرفي الخلاف في تحسين مستقبل المسلمين في مختلف ديارهم، لا سيما أن المستفيد الفعلي من إعادة إثارة ذلك الخلاف ليس من بين المسلمين وليس حريصاً على وحدتهم ولا خاصة على مصالحهم… ويمكن أن نكتفي بأمثلة عربية تنزف عبرها دماء المسلمين في العراق تحت الاحتلال الأميركي وفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وإذا كان قد أمكن تدارك الكارثة الثالثة في لبنان، فلم يكن ذلك بفضل حرص الإدارة الأميركية على حجب دماء المسلمين في هذا الوطن الصغير، بل لأن وعي اللبنانيين عموماً وتنبّه قياداتهم ومسارعتهم إلى اتخاذ مواقف حاسمة قد أوقف الفتنة… والأمل أن يكون لبنان قد تجاوزها تماماً.
إن الدور الأميركي في تراجع، ولأسباب واضحة أخطرها دمويته وبالتالي افتضاح طبيعة المشروع الذي تبنته الإدارة الأميركية تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير فإذا مؤداها تمزيق العراق تحت الاحتلال الأميركي بالحرب الأهلية… بين المسلمين.
والدور الروسي في تقدم لأنه قد تجاوز الإيديولوجيات إلى المصالح، وهي أكثر بريقاً وأكثر نفعاً.
كذلك فإن الدور الإيراني إنما يتحدث بلغة المصالح، وإن لم يسقط الشعار الديني… وهو في علاقاته العربية عموماً، ونموذجها الأنجح ما يجري بين طهران والرياض، لا يسقط الشعار الإسلامي ولكنه يربطه بالمصالح البينية.
ومن يأخذ على الدور الإيراني أنه بات شديد التأثير في المشرق العربي، خصوصاً، وفي ديار العرب عموماً ينسى أن العرب قد أضاعوا هويتهم القومية وفقدوا دورهم المقرّر في قضاياهم، وافترقوا إلى كيانات مختصمة بعضها يرفع الشعار الوطني لتبرير كيانيته وابتعاده عن الروابط المشتركة مع سائر أهله، وبعضها الآخر يرفع الشعار الإسلامي لتبرير خروجه على الوطنية والقومية ولو إلى التيه.
وبدلاً من أن يكون الاحتلال الأميركي للعراق، بنتائجه الكارثية، الضوء الكاشف لحالة الضياع التي تساق إليها المنطقة، وجرس الإذار لتنبيه العرب للعودة إلى وعيهم بهويتهم وبحقوقهم في أرضهم وثرواتهم، فإن ثمة من يسعى لتعظيم مخاطر محتملة لصرف النظر عن الحريق الذي يكاد يذهب بالبيت وأهله.
وعسى هذا التلاقي بين المصالح، بين المتقاربين في الجغرافيا، في جو من المصارحة الكاملة، سواء بين روسيا بوتين والمملكة العربية السعودية، أو بين السعودية التي تتصدى الآن لدور قيادي عربي وبين إيران الإسلامية، يطلق مناخاً جديداً في المنطقة، يعيد المخاطر إلى مصادرها الفعلية، ويفتح الطريق أمام مصارحة كاملة بين أهل المنطقة حول حاضرهم وغدهم، وبما يؤمن مصالحهم الوطنية والقومية والإسلامية من دون تصادم حول خلافات الماضي الفقهية التي قد تذهب بالمستقبل جميعاً.
وبالتأكيد فإن لبنان سيكون مستفيداً فورياً من مثل هذا التلاقي.