طلال سلمان

.سعد الله ونوس يترجل…

أفاقت الأمة، أمس، وعلى وجهها آثار شحوب، شأنها كلما انطفأ في إحدى جنباتها بعض مواهبها العظيمة، كأن يهوي قلم مبدع أو تغيب عبقرية فنية تفيض بعطاء يسعد الإنسان ويجدد علاقته بالحياة.
لقد توقف قلب سعد الله ونوس، واندسّ هذا الكاتب المسرحي الكبير في ثنايا حزنها النبيل.
في أعمق أعماق الليل انتصب واقفاً بجلال: أطفأ الظلمة وأشعل قنديل الفجر ثم انسلّ بهدوء إلى صمته الأبدي، تاركاً الكلام لنور النهار الجديد.
كان الموت قد استسلم أمامه فانسحب، فقرّر سعد الله ونوس أن يموت. لم يعد للتحدي أي معنى. لم يعد موته هزيمة فمات!
* * *
من »حصين البحر« إلى »حصين البحر«: اكتملت الدائرة وقال سعد الله كلمته الأخيرة، وآن للفارس أن يترجل. لم يعد أمامه ثمة ما يفعله. لقد أكمل رحلة اكتشاف الإنسان. جاس داخل الضعف والقوة، كشف الحجاب عن خبايا النفس، واجه الشهوة والشراسة والجشع، عارك الفقر الموروث والمستحدَث. قاتل على أبواب المدينة، وحمى بوجهه إلى الشمس مسيرة إنسان هذه الأرض نحو الغد. حرّضه على مواجهة نفسه، والصراع ضد تقاليده وطقوس دهر التخلّف. أنار أمامه طريق التحوّل، ولم يتعب من التبشير بضرورة التغيير.
من حصين البحر إلى حصين البحر: تعب منه التعب، وأرهقت أفكاره المتجددة دوماً الفكر، وجاء زمن النضوج، وحملت الريح الكلمة المثقلة بالمعنى والإرادة إلى كل المقهورين في واقعهم والطامحين إلى الخروج منه والخروج إليه. لم يتبق غير الفعل ينتظر القادرين على الفعل.
من المحسوس إلى المطلق، من السياسي إلى الثقافي، من الديني إلى ما هو أبعد من الدين وأعمق تأثيرا على الوجدان واليد، من التلمس والحيرة أمام المبهم إلى الرؤية الثاقبة، ومن الشك واهتزاز اليقين بالثوابت جميعاً إلى النبوءة المذعورة والمخيفة في آن.
من الأقصى إلى الأقصى غدواً ورواحاً، محاورة مع الذات ونقاشاً مع الآخر، تمرداً على ما هو كائن بالرفض المشوب بعاطفية تحد من قبول التغيير بالعنف إلى الجهر بضرورة أن يكون ما يجب أن يكون لكي يولد الإنسان الجديد.
ولكن، من أين الوقت؟!
لا وقت لك يا سعد الله، بعد… يا الذي عاش أعظم عمره خارج الوقت، ومنحنا عطاءً غزيراً ومنيراً شكّل قيمة مضافة إلى أعمارنا المهدودة بالخيبات والانتكاسات وأشلاء الأماني الموءودة.
لقد استنزفت الموت، أيها العصي الذي لم تقل »نعم« أبداً، لا لأحد ولا لنظام ولا لفكرة، مهما بلغت درجة قربها منك وقربك إليها.
حاصرت الموت واعتقلته في بيتك بمساكن برزه، في حي ركن الدين، على الحد الفاصل بين جبل الفقراء الملتحفين قاسيون، وأحياء الأغنياء التي التهمت غوطة دمشق وتراثياتها وكادت تشبّ من فوق السور لتهدم قلعة خالد بن الوليد.
لعلّك أكثر إنسان جلس إلى الموت يحاوره حتى الاستنفاد. سنوات طوالا جلستَ إليه تسائله ويسألك، تمتحن قدراته وتستفزه بأن تغمس قلمك في فمه وأنت تكتب أروع ما كتبت في كل عمرك. لكأنك انتزعت المعاني والكلمات والأفكار من قلبه انتزاعاً. بل لعلك قد أمليت عليه. لقد وصفته لنفسه حتى أخفته من ذاته، وما خفت.
جست في أحشائه. أجلسته على كرسي الاعتراف. حاسبته وحاكمته وحكمته. فضحت عجزه أمام طاقتك الهائلة على تحويل الألم إلى إبداع حقيقي، وما بكيت، ولا تركت »ديماك« الطفلة المستكبرة على الوجع المبكّر تشكو أو تطلق نشيجها الإنساني ليملأ الفضاء بالأسى.
* * *
سعد الله ونوس،
اسمك الآن في الريح، يتابع تدوين فن المسرح،
والأمة لن تستمر إلى الأبد تسمر في 5 حزيران، وتغامر برأسها على طريقة المملوك جابر، أو تسعى إلى ملك الزمان بفيلة تسترضي بها فيله المخنث.
لقد قدمت بمقاومة السرطان وهو يتنقّل في أحشائك أروع مثال على الفعل الهائل وغير المحدود لقوة الإرادة وقدرتها على اختراق المستحيل وإسقاطه.
لقد انتزعت الوقت انتزاعاً لكي تعطينا ما لديك، بينما نهدر الوقت بالحقب والأجيال والقرون.
ومثل غرامشي الذي أعجبك كثيراً فقرّبته منك كنت متشائماً بعقلك متفائلاً بإرادتك… »فبرغم سواد الفترات وثقل الإنكسار في السنوات المقبلة، وتضاؤل احتمالات الثورة في المدى المنظور«، فلم تسلم أبداً بأنها نهاية التاريخ، وأن كل ما علينا أن نستسلم للقدر الإسرائيلي الذي يحتفل اليوم بالذكرى الخمسينية لقيام دولته اللاغية لأقدارنا.
* * *
من حصين البحر إلى حصين البحر: ترجل الفارس ليرتاح، لكن الرحلة مستمرة،
وسيحمل الذين أعطاهم سعد الله ونوس كثيراً من نزف قلبه وفكره المشعل ليتابعوا المسيرة والرسالة.
الأمة في حزنها النبيل تفتقد مبدعها العظيم، لكنها ولادة، وهي اليوم أكثر معرفة بطريقها وبأهدافها، ولن تضل سبيلاً،
وسعد الله ونوس الفكرة البكر باق في أجيالنا الآتية.
* * *
راحل أنت والزمان نزول
ومسيء إليك البقاء الطويل
كأنه كان يقصدك الشريف الرضي وهو يرثي الحسين، وأنت ترحل في عاشورائه.
وتحية لك في رحيلك وفي استمرارك فينا، وتحية للمقاتلة النبيلة (فايزة) ول(ديماكما) وقد ساعداك في حربك المستحيلة وأعطياك من أسباب القوة والمنعة والأمل ما ساعدك على إبداع ما أبدعت لأمتك جميعاً.

Exit mobile version