طلال سلمان

سبحانك يا غزة

انتصرت غزة، بكامل دمها. الاستسلام مستحيل. هذه غزة يا ناس. نحن بشر وننتمي إلى الإنسان. الاستسلام ركوع وامتناع حرية وانسحاق إنسانية. العالم الخائف الجبان الممتهن الإهانات والخضوع والركوع، مقابل حفنة سلطات واهية، هو عالمٌ فاقدُ للكرامة، يتحوّل فيه الإنسان إلى شيء. نعم. إلى شيء فقط. إلى وسيلة رثة. إلى عبودية مُزيّنة بالعار.

غزة لا تستسلم. علَّمتنا من زمان أن الشهادة هي الطريق إلى الحياة. غزة عقدت قراناً تاماً مبرماً مع الوجود. إذاً، هي موجودة من زمان، وستبقى الآن وإلى آخر أزمنة الجبهات العالية والجراح المفتوحة والدماء الأبية والحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.

وعليه؛ الذين كانوا إلى جانب غزة، بالطلقة والهتاف والحبر والكلمات والعبارات والدماء والدموع الشجاعة، قدّموا الدليل الإنساني المشترك، بين الأرض والإنسان.. ولطالما قيل: “الدماء التي تجري في عروقنا هي وديعة”.. وديعة غزة، متى طلبتها وجدتها.

حذار أن يظن القارئ أن هذا كلام. هذا الكلام قاصرٌ جداً عن التعبير عن معجزة الانتصار. كانوا يريدون محو غزة. فشروا. أهلها رفعوا دماءهم شعاراً، وجراحهم لغة، واستشهادهم موعد أزمنة مفتوحة على قيامة الإنسان.

غزة ليست بقعة أرض فقط.. غزة هي سلالة إنسان يتسلّق موته كي تعلن غزة قيامتها الدائمة.

الاستسلام والتزلف والركوع ومصافحة العدو، كلها مستحيلة. ليس المطلوب في غزة أن يُصار إلى ابتداع زعامات تتنافس. الزعامة والشهادة في غزة صنوان. والغريب جداً في ملحمة هذا الشعب أنه متصلٌ بماضيه اتصالاً إنسانياً صارماً، وملتزمٌ ببلوغ مستقبل يُبنى بالدم والعرق والأمل.

غريبٌ. بل استحالة. غزة لا تيأس. لا تشعر بالعجز، وهي التي يصحُّ فيها قول المسيح: “كنت عرياناً فكسوتموني، وكنت جائعاً فأطعمتوني”. لكم الحاضر ولكم الآتي. أنتم الوجود ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

وغزة جنة الشهداء الأحياء.. غزة فقيرة أو مُفقَّرة عمداً. الناس يتكدسون فوق بعضهم البعض. السمعة عنها، أنها مدمنة بؤس، وجائعة للخبز، ومفتقدة للدواء. للحذاء، للنور، للدفء. غزة تفتقد إلى فجر يبتسم، وإلى ليلٍ يجثو على عتمته. غزة القوية فوق طاقتها محاصرة من كل التخوم، وبنيتها التحتية مصانة بجهود زنودها وعلو جباهها.

غريبٌ أمر غزة. قرن كامل ولم تجثُ. جاعت. شُرّدت. قُتلت. عذّبت. خُنقت.. وظلّت هي الوحيدة حية ترزق، في بلاد عربية جاثية على جباهها، يطأها الغرب بحذائه وبضاعته. له الأمرة ولها الطاعة ثم الطاعة.

إسمعوا جيداً: تعلّموا من غزة. لا نجد مثيلاً لها في عصرنا، ربما، باستثناء الجزائر وجنوب لبنان.

هذا العالم مقسوم إلى قسمين: عالم غزة وحدها، وعوالم الآخرين التي تخوض حروباً وتقمع شعوبها وقادتها يشربون الأنخاب ليلاً.. نعم، ليست كل البلاد غزة أبداً.

وغزة، ليست ديناً. الدين الواحد تاريخياً غير متوفر. الدين أديان. الإسلام إسلامات على مد الأعداد والنظر. المسيحية مسيحيات. صالحة لكل الأدوار السياسية والاعتباطية.. إسلام غزة ناصع جداً. الإيمان يُترجم نضالاً، لا صلاة. حيّ على القتال، هي معنى حيّ على خير العمل.

وعليه، لا ثروة تضاهي ثروات غزة الإنسانية. ثروات غزة، التي سجلت في صكوك الشهداء أنها كما جاء في الإنجيل: “في البدء كان الكلمة”. هنا، راهناً، في البدء المستدام، كانت غزة العاصية عن التطويع، وصلاتها، حيَّ على السلاح.

أسمح لقلمي أن يتجوَّل في أحوال الظلم. أن التقى بثورة تقاضي الزمن على تأخره في إشهار الانتماء ضد الظلم والظلام. الشاعر سيزار، أراد أن يكتشف العنف على حقيقته. عنف المضطهد في وجه عنف المستعمر. “الثائر” يعلن عن نفسه. يقول: اسمي: مُذَل. اسم عائلتي: مهان. إنما حالتي ثائر إلى الأبد.

جنسي: الجنس الإنساني؛

ديانتي: الأخوة؛

فاصل: يا أولاد الضحية من تكونون أنتم. غريب. تنتمون إلى قابين عندما قتل هابيل. عالم السفّاحين هو العالم الراهن. لا أستطيع أن أنظر إلى الرئيس الأميركي إلا كمخلوق مسخ. وغيره من أقزام الغرب الأعظم. وحوش مفترسة وأنياب تعض وأسلحة تبيد، وكلام عن قيم وإنسانية. أما الارتكاب، فهو “الهولوكوست” الغربي.

يقول الثائر: جنسي: الجنس المعذب، وديانتي الأخوة. ولكن ما أنت من يهيئها بخلوِّ اليد من السلاح. أنا أهيئها بقبضتي المشدودتين ورأسي الأشعث. ذات معركة زحفنا والخناجر في قبضة اليد وزحفنا والخناجر في قبضة يد أخرى.

صاحت الأم: ستموت واحسرتاه

الثائر: قتلتهُ قتلاً خصباً متدفق الخيرات

الأم: حلمت بإبن يُغمض عيني أمه

الثائر: آثرت أن أفتح عيني على شمس أخرى.

الأم: واحسرتاه.. ستموت شر موتة.

الثائر: بل خير ميتة. لقد أحببت بلادي وأسرفت. لا تطلبي مني رحمة.

يا أمي: العالم لا يرحم… ليس في العالم إنسان بائس يُعدَم ولا إنسان شقي يُعذّب، إلا أفتك مثله وأذل.

فجأة. حل صمت ينبئ بأن السماء مفتوحة للشهداء.

كم أنت عظيم أيها الغزاوي.

لا أحد مثلك. لا أحد قبلك. ولكنك ستُعلّم من يجيء من بعدك، أن الحياة ثمنها غال جداً. ولكن، ثمنها البالغ، يتيح للحرية حضوراً منيعاً، يعطي الحياة، صك حضور إنساني.

في هذه الصحراء العربية، يطلع فجر من غزة. القرى الصغيرة التي رقصت على دمها حتى منتصف الليالي. أصوات الاستغاثة والرجاء وعنف الجراح، راحت توقظ كثيراً من أنقياء القلوب، الذين اصطفاهم المسيح وسمّاهم رسلاً… الأرض تستيقظ شيئاً مستثار الشهادة وأبلغ من الصلوات. أبلغ من الكلمات، أكثر قرباً من الآيات.

الذين شُرّدوا في الطرقات. الأطفال الذين توكأوا على دموعهم. الأمهات اللواتي تشلّعت حناجرهن وانتحرت أرحامهن، كُنّ يسرقن الأمل أثناء نوم مؤقت.

الصبايا اللواتي تسلّحن بالحوار والدمع المرصوص، الذي يشبه سحابة كناري في السماء يرقصن على إيقاع الآلام إلى صبية وفتيات يُرتلون آيات من القرآن.

رجاءً… هيّئوا الطريق لاستقبال غزة. حان وقت تقديس الدموع وسماع هتافات الحياة. لهؤلاء نسأل: ما الحياة؟ الجواب: تعلّم ذلك في غزة. الحياة فيها معجزة لأنها تريد أن تكون مطوَّبة بالحرية.

يا أيتها الشعوب تعرفي على محجة الحرية.

هي هنا في فلسطين ومكان إقامتها: غزة العظمى.

هل بالغتُ؟

لا. إننا منتصرون. قامة فلسطين وصلت إلى شعوب الأرض، فنزلت إلى الشوارع وملأتها انتساباً إلى فلسطين.

سبحانك يا غزة.

Exit mobile version